من المقرر في الشريعة الغراء ومن المعلوم عند العلماء أن الإخلاص لله تعالى شرط أساس في قبول الأعمال والطاعات، والكلام عن تحقيق الإخلاص واجتناب الرياء هو علم في حد ذاته وله أهمية كبرى.
قال عبد الله بن أبي جمرة رحمه الله: “وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصد أعمالهم فإنما أوتي كثير ممن أوتي من قبل تضييع ذلك” المدخل لابن الحاج.
ومعنى كلامه أن كثيرا من الناس ما حققوا الإخلاص في الطاعات لعدم تعلمهم الإخلاص وكيفية اجتناب وسائل الرياء.
قال الشافعي رحمه الله: “لا يتعلم الرياء إلا مخلص” بستان العارفين للنووي.
والقصد من كلامه رحمه الله أن تعلم ذلك باعث لتحقيق الإخلاص واجتناب الرياء.
قال تعالى: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ”.
قال الشوكاني رحمه الله معلقا على الآية: “فقيَّد الأمر بالعبادة بالإخلاص الذي هو روحها” أدب الطلب.
وقال تعالى: “لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً”.
قال الفضيل بن عياض: “العمل الحسن أخلصه وأصوبه، أما أخلصه: أن يكون لوجه الله تعالى، أما أصوبه: أن يكون على وفق السنة” الإقتضاء.
وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أول الثلاثة الذين يقضى عليهم يوم القيامة فذكر: المجاهد والمنفق والذي قرأ القرآن وأقرأه، فيعرِّف اللهُ تعالى كل واحد منهم نعمته عليه، فيعرفها، فيقول له الله تعالى: لمن عملت كذا؟ فيقول: ابتغاء وجهك، فيقول له الله تعالى: كذبت وإنما قرأت القرآن وأقرأته ليقال قارئ وقد قيل، ويقال للمجاهد: إنما جاهدت ليقال شجاع وقد قيل، ويقال للذي أنفق ماله: أنفقته ليقال جواد وقد قيل، فيؤخذ كل واحد منهم فيُسحب على وجهه فيلقى في النار.
قال النووي رحمه الله عند هذا الحديث: “هذا الجزاء الذي أخبر به نبينا عليه الصلاة والسلام دليل على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته”.
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: “من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه” صحيح.
وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: “إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه”.
قال سفيان الثوري رحمه الله: “ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي، لأنها تتقلب علي”.
وقال ابن المبارك رحمه الله: “رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية”.
وقال أحد السلف: العلم بذر، والعمل زرع، وماؤه الإخلاص”.
وحقيقة الإخلاص، قيل هو: “إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة”.
وقيل: “تصفية الفعل أو العمل عن ملاحظة المخلوقين”.
قال الهروي رحمه الله: “الإخلاص تصفية العمل عن كل شوب” أي عن كل ما عدا الله من مال أو جاه أو مدح ونحو ذلك”.
علامات الإخلاص
للمخلص علامات ذكرها جمع العلماء منهم الفضيل بن عياض رحمه الله:
أولها: استواء المدح والذم عنده من الناس.
ثانيها: إرادة الثواب في الآخرة.
ثالثها: نسيان رؤية الأعمال في الأعمال (أي: لا تستكثر عملك عند عمله أو تستعظمه فيدخل عليك العجب).
علامات الرياء
وضد الإخلاص الرياء وتعريفه كما قال ابن حجر رحمه الله: “إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها فيحمدوه عليها”.
روى ابن جرير وغيره عن شداد ابن أوس رضي الله عنه قال: “كنا نعد الرياء على عهد رسول الهه صلى الله وسلم شركا أصغرا” صححه الحاكم.
وليعلم أن العبد قد يكون مرائيا حتى بعد موته.
قال بشر ابن الحارث رحمه الله: “قد يكون الرجل مرائيا حتى بعد موته، يحب أن يكثر الخلق في جنازته”.
والرياء يكون كما ذكر ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين:
1- بالقول.
2- بالعمل.
3- الرياء بالبدن كإظهار بعض الناس لذبول الشفتين أو صفورة الوجه حتى يقال إنهم من القائمين بالليل مثلا.
4- الرياء بالهيأة والزي كصنيع أصحاب المرقاعات من المتصوفة ونحوهم.
5- الرياء بالأصحاب والزائرين كمن يرائي بصحبة المشايخ وطلاب العلم.
وللمرائي علامات أثِرت عن علي رضي الله عنه:
أولا: الكسل عن الطاعة إذا كان المرء وحده.
ثانيا: ينشط للطاعة إذا كان مع النفس.
ثالثا: يزيد في الطاعة إذا أثنى عليه الناس بخلاف إذا ذموه.
الرياء مع العمل مراتب
للرياء مع العمل مراتب:
أولها: أن يكون الأصل العام عند المرء العمل لغير الله فهذا شرك أكبر ونفاق.
ثانيا: الأصل العام لله ولغيره وهذا كالمرتبة الأولى.
ثالثا: الأصل العام في جميع الأعمال لله تعالى، لكن في آحاد الأعمال دخل بنية فاسدة فهذا مؤمن مع بطلان عمله ذاك.
رابعا: الأصل العام في جميع الأعمال لله تعالى، لكن في آحاد الأعمال دخل بنية صحيحة، لكن في ثناياه انتابه الرياء فإما أن يدفعه وإما أن يسترسل معه، وعلى هذا الأخير فهل يبطل العمل أو هو صحيح؟ محل خلاف بين أهل العلم، والراجح بطلانه لأن العمل يرتبط أوله بآخره.
خامسا: الأصل العام لله تعالى وفي آحاد الطاعات عملها مريدا بها الأجر والذكر من الناس فهذا عمل باطل كما في صحيح سنن أبي داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يبتغي بعمله الأجر والذكر فقال عليه الصلاة والسلام: “هذا باطل باطل باطل إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه”.
سادسا: الأصل العام لله، لكن في آحاد الأعمال أراد بعمله الأجر والغنيمة كالمجاهد، فهل عمله صحيح أو باطل؟ محل خلاف بين أهل العلم.
بواعث الوقوع في الرياء
للوقوع في الرياء بواعث وأصول كشف عنها ابن القيم في فوائده وابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين:
أولا: إرادة المدح والثناء من الناس.
ثانيا: الفرار من الذم.
ثالثا: الطمع فيما في أيدي الناس.
قال ابن القيم رحمه الله: “لا يجتمع في قلب العبد الإخلاص وهذه الأمور”.
دقائق الرياء
للرياء دقائق لا يتفطن لها كثير من الناس.
أولها: من يخفي فعل أعماله وهو مراء، ووجه ذلك أن يحب رؤية الناس له في خلوته وسره.
ثانيا: من جعل الإخلاص وسيلة لا غاية، مثاله ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله عن أبي حامد الغزالي أنه بلغه قول أحد السلف: من صام لله أربعين يوما نطق بالحكمة، فصام ولم تظهر حكمته، فسأل أحد الأكابر عن ذلك فقال له: لقد صمت للحكمة لا لله تعالى. الفتاوي.
ثالثا: الإزراء على النفس أمام الناس ليقال كذا وكذا.
قال أحد السلف: كفى بالمرء إطراء على نفسه في الملإ كأنه يريد بذمها زينتها وهذا عند الله سفه.
رابعا: ومن دقائقه ما حكاه ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس أن رجلا استضاف آخر فقدم له الطعام وقال له: كل، فأجابه المستضاف بقوله هذا يوم الإثنين، فذكر ابن الجوزي أن قوله هذا من دقائق الرياء، لأنه يستشف منه دعواه صيام كل اثنين، ولو قال إني ممسك لكان أقرب إلى السلامة.
فالله الله في الإخلاص فإنه سبب من أسباب النصرة لهذه الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام: “إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم” صحيح الترغيب والترهيب.