حظ العلماء من معركة البناء

استقل المغرب منذ ما يقرب من سنتين، وأصبح يتحمل وحده مسؤوليات الحكم وتبعات التشريع والتنفيذ، ولم تبق مقاليد أموره بيد الأجانب الذين استبدوا بها مدة نصف قرن لغير مصلحة المواطنين، وبدا المخلصون الذين ألقي على كاهلهم عبء حكم البلاد يحسون بثقل الحكم وفداحته، نظرا لقلة الأكفاء وضعف الخبرة وقيام العراقل في وجه مشاريع النهوض الكبرى، تلك العراقل التي مازال ينصبها أعداء الاستقلال الذين يتربصون به دوائر السوء.

والاستقلال في حد ذاته وسيلة لا غاية، والغاية هي التمتع بالنعم التي لا توجد إلا بوجوده، وأهمها الانعتاق من العبوديات، والتسلح بالعلم والأمان من الفقر والمرض، وارتفاع مستوى العيش وقيام الحكم العادل الصالح، واستثمار الموارد الطبيعية التي حبا الله بها هذه البلاد المغربية لخيرها وخير سكانها.
ومن الطبيعي أن تحقيق هذه الغاية يقتضي تعبئة عامة لجميع القوى الحية من البلاد، ويستوجب ضم الجهود وجمع الكلمة والاستفادة -أقصى ما يمكن- من الكفاءات والمواهب التي لا يخلو منها الوطن رغم ضعفها وحاجتها إلى المدارس والتوجيه.
وقد استقلت بلدان كثيرة منذ نهاية الحرب العظمى الأولى مثلما استقلت بلادنا أخيرا، فأما بعضها فقد هدته القيادة الحكيمة، والطبيعة القومية، إلى سبيل رشده فعز وساد، وأصبح ذا مكانة رفيعة بين الأمم الغنية بثرواتها الاقتصادية والمعتزة بقوتها الحربية، والمتقدمة الراقية بتبحرها في العلوم وتضلعها في الفنون، وأما أمم أخرى، فيد ابتليت بالجدل وقلة العمل، وأضاعت السنين هباء في المناقشات العقيمة والمجادلات السقيمة حول الأشياء التافهة أو التي تقرب من التفاهة فبقيت تائهة في بيداء الحيرة والضلال، لا تهتدي للخروج منها إلى سبيل الحق واليقين سبيلا.
والطبقة العلمية في المغرب هي دون شك في طليعة الطبقات الشعبية التي تدعى إلى بناء صرح الوحدة وتدعيم أركان الاستقلال وخلق المغرب الجديد المرجو له كل فضيلة وكمال، فليس معقولا أن تُدعي طبقات العسكريين والاقتصاديين والسياسيين لميدان العمل وتبقى هي كمًّا مهملا، قاعدة مع القواعد، متخلفة مع الخوالف، فوضعيتها تحتم عليها أن تسير في مقدمة القافلة تضرب للناس أروع المثلات في التضحية والصبر والإيثار، لتكون محل الاقتداء، ومكان التأسي والاتباع.
ومن الخطل والخطر أن نسمح برواج الفكرة التي استقرت في أذهان الأوربيين ومقلدتهم من المشارقة منذ انتصار الثورة الفرنسية واتصال الغرب بالشرق، تلك الفكرة التي تدعو إلى انسحاب علماء الدين من الحياة العامة! وانعكافهم في الأديرة والصوامع والانصراف إلى ممارسة العبادة التي وقفوا حياتهم عليها.
إن هذه الفكرة تتنافى مع الإسلام الذي لا رهبانية فيه، وفيها تعطيل لجزء حيوي من جهاز النشاط والتفكير الشعبي، فالواجب الديني والوطني يحتم أن يبقى العلماء على اتصال بشؤون مجتمعهم ومحيطهم، وأن لا يفروا من المسؤوليات التي يفرض حملها عليهم النفقة في الدين والعلم بحقائق الشريعة والاطلاع على نواميس الطبيعة، فإن الفرار منها مما يجلب لهم النقمة ويضاعف لهم العذاب، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
ومعلوم أن تشعب الأعمال وكثرتها يقتضيان إرجاع كل فن إلى ذوي المعرفة وأرباب الاختصاص، فكما أن المهندس الفلاحي سوف لا يدعى إلى معالجة المرضى،.. كذلك علماء الدين سوف يدعون إلى مباشرة الأعمال التي يبرعون فيها، وولوج الميادين التي يصعب على غيره الصولان فيها والجولان.
فهناك الميدان الديني الذي يجلون فيه محاسن الإسلام وفضائله، ويقضون على البدع والضلالات التي لصقت به أثناء عصور الانحطاط وشانته، حتى عاقت أهله عن النمو ومنعتهم من التطور، وسيكون على العلماء في هذا الميدان أن يدرسوا القوة الكامنة وراء هذا الدين الحنيف، تلك القوة التي فتقت أذهان البداة الأعراب نورا وحكمة وجعلتهم ينطلقون في سرعة عجيبة من جزيرتهم القاحلة إلى جهات كثيرة من الدنيا يشيدون صرح مدنية رائعة ما زالت أنوارها تبهر الناظرين، وآياتها تقطع ألسنة الجاحدين فهذه القوة نحن في حاجة إلى معرفتها والتطلع إليها حتى نستطيع أن نخلق المغرب العظيم.
وهناك الميدان الأدبي، وهو مجال واسع لهم، لأنه متعدد المناحي كثير الشعب، وفي هذا الميدان يمكنهم أن يرفعوا الحجب عن المدينة العربية بما يظهرون من أثارها ويكتبون من الدراسات عنها، كما يمكنهم أن يطلعوا المغاربة على تراثهم الفكري الذي عبثت به الأيام ووزعته شذر مذر، حتى فقد وأصبحنا عرضة للنقد من طرف أعدائنا، موصومين لديهم بعقر الفكر، ويبس القريحة وجفاف الإدراك.
كما سيكون على العلماء في هذا الباب أن يقوموا الألسنة بالفصيح، ويشيعوا العربية بما يعلمون ويخطبون ويحاضرون ويكتبون، ويساعدوا على تعريب البلاد من العجمتين السابقة واللاحقة حتى لا يبقى فيها إلا اللسان العربي المبين.
وهناك الميدان التربوي الذي يهذبون فيه الأمة ويربون فيها ملكات الخير والإحسان والتعاون، والأخذ بالأسباب الطبيعية للأشياء، ويكرهون إليها التواكل والتخاذل والتعلق بحبال الخيالات وأسباب الأوهام.
وهذه الميادين الثلاثة ليست من السهولة بحيث يستطيعون العمل فيها منفردين متفرقين، بل لا بد لهم من تعاون وتآزر يمكنهم من أصالة الأهداف وإدراك المقاصد، سيما وأن الشبهات حول الإسلام والمدنية العربية عملت عملها في نفوس المسلمين وغيرهم على السواء.
ولهذا أدعوهم -وقد انفسحت في وجوههم ميادين العمل بعد إعلان الاستقلال- إلى التعجيل بتكوين رابطة لهم تجمع شتاتهم وتوحد مناهجهم، وتحفزهم للعمل لما فيه صالح الدين الحنيف والمدنية العربية وقومية المغرب (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).
عبد الهادي بن منصور
دعوة الحق العدد الثاني السنة الأولى
ذو الحجة 1376 الموافق غشت 1957

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *