وهمية الصراع بين العلم والدين في البيئة الإسلامية -الحلقة الرابعة- أبو الفضل حسن فاضلي

 

مناهجُ ما أنزل الله بها من سلطان، فمِنهم مَن يعطي القلْب حقَّ وضْع المنهج..
ومنهم مَن يُعطي هذا الحق للرُّوح والتجرِبة الباطنية..
وآخرون يُعطُون هذا للحدس والتخمين، والرياضة والممارسة..
ثم سيأتي العلمانيُّون لكي يرْفَعوا أصواتَهم قائلين: إنَّ العلم
الذي هو حصيلةُ العقل والتجريب هو المنهجُ الذي يجب أن تخضَعَ له أعناقُ الناس ومصايرهم..
هذا التدافُع الذي تتغيَّر مظاهرُه بحسب الزمان والمكان والحال، فكان العصرُ الحالي بتقدُّمه وتطوره، فرصةً لأصحاب الحِقد الدفين، والحسد العميق، لتطبيقِ تعاليم وتوصيات أسلافهم -كل ذلك بدهاءٍ ومكْر وخديعة- التي أخرجوها في صورةٍ متطوِّرة، ظاهرها اتِّباع العقْل والتجريب، وباطنها تجديدُ الحقد القديم، وتنمية الحسَد العميق، واتباع للهوى والشهوات، فاتَّحِدوا جنبًا إلى جنب، يقصدون هدفًا واحدًا، وهو نعْت الدِّين بالجفاء العِلمي، وبِبُطئه في مسايرة التقدُّم الإنساني والحضاري، ومِن ثَمَّ الخلود إلى تفريغه مِن دائرته السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسلوكيَّة وغيرها… وحبْسه تحت سقْف المسجد.
في هذا البحث سنُحاول أن نكشِفَ الزيف الذي مارَسَه دعاةُ التغريب باستنساخهم للصراعاتِ التي عرَفها الغربُ العلماني، في البلاد المسلمة، كما سنبيِّن إمكانياتِ قَبول العلمانية في المجتمعاتِ الغربية، باعتبارها قد حوَّلتِ الدِّين إلى مجرَّد عقيدة بلا شريعة؛ لتتحرَّك العلمانية في المساحات التي تركتْها الشريعة، ثم نؤكِّد على وهميةِ الصِّراع بيْن العِلم والدِّين في البيئة الإسلاميَّة، وذلك ببيان أنهما وحدةٌ لا تقبل الانفصال، وبالتدليل على أنَّ الدين يضمُّ العلم ويحتويه.
فأقول أولا: إنَّ العلمانية قد تُقبَل في المجتمعات النصرانية؛ ذلك أنَّها حولت دِينها إلى عقيدةٍ بلا شريعة، وفصَلوا بين الله -تعالى- وبين قيصر؛ ولذلك يمكن أن يعيش النصراني في ظلِّ النظام العلماني غير مخدوش العقيدة، كما أنَّ للنصراني عذرَه في الهروب من الحُكم الدِّيني إلى الحُكم اللاديني.
أما عندَ المسلمين، فلا يوجَد سببٌ مِن دينهم أو تاريخهم، يدفعُهم لإقصاء الإسلام مِن مجال الحياة، والإسلام بدوره يرفُض أنْ يُعلِن الإنسان إيمانَه بالله تعالى، ثم يصرِّف أمور حياته وَفقَ قانون غير إلهي، ولا يرضى هذا التناقُضَ الذي جاء أصلاً -أي الإسلام- للقضاءِ عليه(1)، فهو منهج شامل، يشمل الدِّين والدنيا، المادة والرُّوح، الظاهر والباطن، الفرْد والجماعة، الإنسان والحيوان، على عكس المنهجِ العلماني القاصِر، القائم على تأليه العقْل، والنَّفْخ في العِلم ليشمل حياةَ الإنسان كلها، وهذا تحميلٌ للعلم ما لا طاقةَ له به، هذا كمَن يطمع أن يزِن الجبال بميزان الذهب، وليس مِن العقل أن يكونَ العلم منهجًا أو دينًا للإنسان، وإنِ ادَّعى العلمانيون ذلك، فلا يمكن للجزء أن يتشرفَ الكل، ومن المضحِك الدعوةُ إلى أن يحكم الجهاز الهضمي وحْدَه بيولوجية الإنسان.
فالعلمانية -بهذا المعنى- ليستْ سوى محاولة مِن محاولات سوء التفاهُم الكثيرة، التي لا بدَّ وأن يقَع فيها الإنسان الذي يختار بنفْسه أن يندَّ عن طريق الله ومنهجه في الحياة، ومِن ثم يجد نفسه مضطرًّا إلى ابتكار منهجٍ من عند نفسه، وهكذا تطلُع علينا كلَّ يوم مناهجُ ما أنزل الله بها من سلطان، فمِنهم مَن يعطي القلْب حقَّ وضْع المنهج، ومنهم مَن يُعطي هذا الحق للرُّوح والتجرِبة الباطنية، وآخرون يُعطُون هذا للحدس والتخمين، والرياضة والممارسة، ثم سيأتي العلمانيُّون لكي يرْفَعوا أصواتَهم قائلين: إنَّ العلم -الذي هو حصيلةُ العقل والتجريب- هو المنهجُ الذي يجب أن تخضَعَ له أعناقُ الناس ومصايرهم(2).
فإذا ما اعتقدَ الأتْباعُ ذلك -أي: اعتقدوا أنَّ العلم هو المنهج الذي يجب أن تخضع له أعناقُ بني البشر أعدموا النِّصف الداخلي في الإنسان، فيقعوا في خطيئة “إما هذا أو ذاك”، وبذلك يظهر الخطرُ الكبير على النفس البشرية، “سواء في قَبول دِينٍ يرفض العِلم، أو في قَبول عِلم يرفض الدِّين، والأمران كِلاهما لا يمكن أن نجدَ لهما أيَّ سند مِن القرآن والسُّنَّة، أو مِن سير الأنبياء -عليهم السلام-“(3).
فإذا تأكَّدْنا أنَّ الفكر المادي العلماني أقصى الجانبَ الرُّوحي في الإنسان، وبانَ لنا الخطرُ الكبير الذي يهدِّد الإنسان في قَبوله عِلمًا يرفض الدين، وعلِمْنا أن الإسلام يقوم على أساس النَّظرة الشاملة للإنسان، فهِمْنا أنَّ وجود الفكر العلماني في المجتمعات المسلِمة، وجود دخيل ومستورد “على الفِكر العربي… اندفع إليه المفكِّرون المتغرِّبون من العرَب بقوَّة السيل، وباندفاع همَجي بدون وعْي تام، واستهلكوه استهلاكًا قلَّ نظيره، بل وتقيَّؤوه في إناء عربي من لُجَّة الطين.
فالعلمانية أو اللادينية موطنُها الأصلي أوربا والغرْب عمومًا، وكان لوجودِ هذا المذهب مبرِّرات وقناعات فِكرية؛ لأنَّه جاء كثورةٍ على الدِّين النصراني المحرَّف، وكمنهج مادي إلحادي صِرف، يؤلِّه المادةَ وهي ضامنة للسلطة… وردّ فِعل إيجابي على تسلُّط الكنيسة والمظاهِر السلبية للدِّين، التي ظهَر بها الدِّينُ النصراني، بل وتَمَظْهر بها… ومن ثَمَّ كانت حتمية الصِّراع بين الكنيسة ومواقفها الرهبانية المبتدعة، وبين اللادينية كنمطٍ جديد يخرُج عن التقليد، ويخضَع للمنهج الثوري وللفلسفة الثورية، وفي المقابل ترى أنَّ الإسلام والفِكر الإسلامي غنِيٌّ كلَّ الغِنى عن المذاهب اللادينية ومواقِفها الفلسفية، خاصَّة ما يُسمَّى بعصر الأنوار”(4).
فإذا عرَف التاريخ الغربي تقديسَ الأفراد، ومحاكِم تفتيش، والصِّراع على النفوذ بيْن رِجال الدِّين ورِجال الحُكم، وتميز بعض أفراد المجتمع على بعض، باعتبارهم مقدَّسِين معصومين عنِ الخطأ، فإنَّه في تاريخنا الإسلامي لم يكن هناك لا “تقديس للأفراد، ولا محاكِم تفتيش، ولا صكوك غُفران، ومراسيم حِرْمان، ولا صِراع على مناطق النفوذ في رِجال الدِّين ورِجال الحُكم، ولا مجال للفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدِّينية.
ومعنى ذلك: أنَّه ليس هناك مكانٌ في المجتمع الإسلامي للنِّزاع حولَ السلطة، على أساس أنَّ بعض الناس في المجتمع يتميَّزون عنِ البعض الآخر، باعتبار أنَّ هذه المجموعة مقدَّسة معصومة مِن الخطأ، وهذه الأخرى ليستْ لها قداسة، كما هو تصوير مبعَث النزاع بين الكنيسة والدولة في الفِكر الأوربي”(5).
ولذلك عاب القرآنُ الكريم على اليهود والنصارى اتخاذَهم أحبارَهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله تعالى؛ يُحلِّلون لهم ويحرِّمون عليهم، فقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 31)، وهم لم يكونوا يعتقدون أُلوهيةَ الأحبار والرُّهبان، وإنما فقط اعترفوا لهم بحقِّ التشريع، وقبِلوا منهم ما شرَعوه لهم مما لم يأذنْ به الله؛ ومِن هنا وصفتْهم الآية بالشِّرْك والعبودية لهم.
والإسلام حين يجْعَل التشريع لله -تعالى- وحْدَه، إنما يحرِّر الإنسان ويُخرجه من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد سبحانه وتعالى(6)، والإسلام لما نَهَى أهلَ الكتاب عن اتِّخاذ أحبارِهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى، وازَنَ بين العقيدة وبين الواقع الذي يعيشه الإنسانُ ويتحرَّك فيه، بحيث حكمتِ العقيدة هذا الواقِعَ وتحكَّمت فيه، وقنَّنتْ كلَّ حركة مِن حركات الإنسان، و”ربط الشعائر بالحياة، فالصلاة والصِّيام والحج والزكاة وسائلُ للتربية الأخلاقيَّة يَنبغي أن تسيطر على الإنسان في معاملاته ودُنياه، ومِن هنا يقول القرآن: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)، وهكذا ارتبط المسجدُ بالحياة، وأصبحتِ الدنيا والآخِرة في متناول حياة المسلِم، يعيش حياتَه ويأخُذ مِن كل مُتَع الحياة، ما دام ذلك وفقًا لتعاليم الله تعالى التي أحلَّتِ الحلال وحرَّمت الحرام، وهو في الوقت ذاته قد ضمِن الفوز في آخرته، كما جاءَ في الأثَر (اعملْ لدنياك كأنَّك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتِك كأنَّك تموت غدًا)، وبهذا رفَع الإسلام الازدواجية التي صرَعَتِ الإنسانَ في أوربا… فلم يعُدْ هناك مجال للفصل بين الدِّين والدولة، فقد نشأتْ هذه الفِكرة لظروف خاصَّة لا يمكن أن تنطبق على الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام، ص227 (بتصرف).
(2) تهافت العلمانية، ص:27، (بتصرف).
(3) نفسه، ص:25.
(4) الفكر الإسلامي في مواجهة الحضارة الغربية، 1/164-165.
(5) الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام، ص:222.
(6) الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام، ص:233.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *