النظرة العلمانية للنظام السياسي في الإسلام

لا نستطيع أن نعثر في الأزمنة السابقة على مسلمين يشنون الحرب على النظام السياسي الإسلامي ويتنكرون له، إذ زمن هذه الحرب وذلك التنكر حديث جدا لا يبلغ قرنين من الزمان، فقد بدأت بواكير تلك الحرب مع انتشار الفكر العلماني الذي فجرته الثورة الفرنسية عام 1789م؛ ومنذ ذلك الحين وبفعل مجموعة من العوامل -لا مجال للحديث عنها هنا- بدأ الفكر العلماني يعرف طريقه إلى بلاد المسلمين: العرب وغيرهم، وبدأ التوجه العلماني لدى الدوائر ذات النفوذ والتأثير في بلاد المسلمين يؤتي ثماره، وينتج نواتجه في العديد من مجالات الحياة، حتى قبل أن تعرف الفكرة أو النظرية طريقها إلى عقول أو أسماع المسلمين بزمن ليس بالقصير، وذلك حتى إذا جاءت النظرية وبدأ المضللون يروجون لها، وجدت الواقع ممهدا ومهيَّأ لقبولها من غير رفض أو نكير.

ولقد ظهرت في الفترة المبكرة من تسلل العلمانية إلى بلاد المسلمين بعض المقولات أو الفقرات في كتابات بعض الناس لتعلن عن الفكرة العلمانية، غير أنها كانت فقرات قصيرة متداخلة مع كلام كثير غيرها، قد لا يفطن لها الكثيرون بحيث يمرون عليها وهم لايدرون، وإذا انتبهوا لها فربما عدوها من اخطاء الكاتب ولم يتبين لهم ماوراءها، وظل الحال على هذا المنوال حينا من الدهر حتى أفصحت العلمانية -في المجال السياسي- عن نفسها إفصاحا كاملا وذلك على المستويين العِلمي والنَّظري.
أما المستوى العلمي فتمثل فيما قام به مصطفى كمال أتاتورك من إلغاء الخلافة الإسلامية وإقامة النموذج السياسي العلماني على أنقاضها.
وأما المستوى النظري فيتمثل فيما أقدمت عليه العلمانية من تقديم فكرتها أو نظريتها السياسية في عزل الدين عن الدولة، وما حشدته لها من كل ما يمكن أن تراه لذلك من أدلة، وذلك في أول كتابة من نوعها في ديار المسلمين على يد شيخ من الأزهر يدعى علي عبد الرازق. وقد كان هذا أيضا إلغاء للخلافة على المستوى الفكري أو النظري.
لقد كان كتاب علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم؛ أول كتاب يقدمه رجل ينتمي للمسلمين معلنا عن نفسه بغير مواربة؛ ويقدم فيه الفكر العلماني في عزل الدين عن الدولة؛ أو عزل الإسلام عن السياسة: على أنه الفهم الصحيح في علاقة الإسلام بالحكم أو السياسة، في جرأة لا تعرف الحياء أو الخجل..!!
وبالرغم ما في هجمة أتاتورك على الإسلام وأتباعه من الضراوة والقسوة والشراسة، فإن جناية علي عبد الرازق من الناحية الفكرية كانت أشد وأخطر.
لقد كانت تلك الكتابة تمثل إعلانا عاما بأن العلمانية في الجانب السياسي قد بدأت جولتها الأولى ضد النظام السياسي في الإسلام، وأنها قد تمكنت وتغلغلت وقوي أمرها، ولم تعد تخشى على نفسها من الإفصاح عن عقيدتها وتقديمها للناس.
وسواء كان هذا الكتاب المنسوب لعلي عبد الرازق من تأليفه هو -كما هو مدون على غلاف الكتاب- أو كان من تأليف بعض المستشرقين كما يذهب إلى ذلك آخرون؛ فإن الذي يعنينا هنا أن نقول: إن العلمانية أعلنت الحرب بغير مواربة على النظام السياسي الإسلامي، وبدأت جولتها معه التي ربما خيل لأتباعها أنها الجولة الأولى والأخيرة.
لقد كان صدور ذلك الكتاب المنبوذ -والذي يعني عند مؤلفه ومن شايعه إسقاط الخلافة والقضاء عليها من الناحية الشرعية- عام1925م، أي بعد عام واحد من إسقاط الخلافة والقضاء عليها واقعيا من قبل أتاتورك وأتباعه.
وبصدور ذلك الكتاب ألف كبار العلماء كتبا في الرد عليه، فألف الشيخ محمد الخضر حسين “نقض كتاب الاسلام وأصول الحكم”، وألف الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في وقته “حقيقة الإسلام وأصول الحكم”، كما ألف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتاب “نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم”، ومن قبل ذلك فقد عقدت لعلي عبد الرازق محاكمة في الأزهر من قبل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر وعضوية أربعة وعشرين عالما من كبار العلماء، وبحضور علي عبد الرازق نفسه.
وقد تمت مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه، واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه ثم خلصت الهيئة إلى القرار التالي: “حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربع وعشرين عالما معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب “الاسلام وأصول الحكم” من زمرة العلماء”.
كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية -العدل- بإجماع بفصله من القضاء الشرعي.
ومنذ ذلك الحين لم تنقطع الكتابات في الرد على كتاب علي عبد الرازق سواء كان الرد على هيئة مقال أو في كتاب.
وحين عرض على علي عبد الرازق قبل وفاته سنة 1966م إعادة طبع كتابه مرة أخرى رفض ذلك، كما أنه لم يحاول من قبل الرد على منتقديه وخصومه.
ولكن هذا كان على المستوى الفكري أو النظري، وأما على المستوى العملي أو الفعلي فإن العلمانية قد تداخلت في أغلب مجالات الحياة في بلاد المسلمين -وليس في السياسة فقط-؛ ولا زالت متداخلة حتى وإن كان كثير من الناس لا يدركون ذلك.
والسمة العامة للتوجه العلماني في هذه المرحلة:
الإعلان الصريح عن فصل الدين عن الدولة والزعم الجريء بأن:
– الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.
– وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة للعالمين.
– وأن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبا للحيرة.
– وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ.
– وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
– وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية.
– وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم أجمعين كانت لا دينية!!
– وأن الخلافة نظام عتيق ذل له المسلمون واستكانوا وينبغي عليهم أن يهدموه ويقيموا نظام حكومتهم على الفكر الوضعي الحديث. (انظر لزاما كتاب تحطيم الصنم العلماني؛ جولة جديدة في معركة النظام السياسي الإسلامي؛ لمحمد شاكر الشريف).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *