يوما بعد آخر تزداد نسب الجريمة وترتفع معدلاتها؛ ويصاحب ذلك ويوازيه تصاعد إرهاب المواطنين وخوفهم من حالات عدم الاستقرار الأمني؛ فبعض مدن المملكة -للأسف الشديد- أصبحت نقط أمنية سوداء؛ ارتفعت فيها نسب السطو والسرقة تحت إكراه السلاح والاغتصاب والقتل؛ بدرجة غير عادية.
وليست هذه مزايدة إعلامية ولا معاداة للمؤسسات الأمنية؛ بل حقيقة يجب الاعتراف بها؛ وظاهرة تجب مواجهتها والوقوف في وجهها بجد وحزم ومسؤولية؛ لأنها تمس بالأساس أرواح الأبرياء وكرامتهم وتهدد أملاكهم ومكتسباتهم.
علما أن المؤسسات الأمنية ليست هي وحدها من تتحمل مسؤولية استفحال هذه الظاهرة؛ بل تتداخل العديد من العوامل والمؤسسات والجهات في ذلك؛ نذكر منها باختصار وإيجاز شديد:
1- الأسـرة
فهي الجماعة الأولى في حياة الإنسان، والتي لا يكون له خيار في كونه فردا منها، ففيها يولد ويعتمد عليها كلياً في توفير جميع احتياجاته في سنوات عمره الأولى، وفي خلال نموه يتلمس مظاهر السلوك التي تمارسها الأسرة، فيقلّد هذه السلوكيات ويكتسب منها المعايير والأخلاقيات التي تتعامل بها.
وقد توافرت دراسات لعدد من الباحثين حول دور الأسرة في سلوكيات الفرد؛ وأكدت هذه الدراسات على أن الأسرة تؤثر بشكل كبير على سلوكيات أفرادها؛ سواء كان هذا التأثير سلبا أو إيجابا.
وأكدت دراسات عديدة أن البيت المتصدع؛ سواء أكان هذا التصدع نتيجة الطلاق بين الوالدين، أو هجرة، أو وفاة أحدهما، أو سجن أحدهما بسبب ممارسته سلوكاً منحرفاً كإدمان الخمور أو المخدرات، أو الشذوذ الجنسي، أو ارتكاب الجرائم من أي نوع كانت، يؤدي هذا البيت إلى جعل الأطفال عرضة للوقوع في سلوكيات منحرفة، وإذا استمر هذا السلوك مع الفرد بعد ذلك فقد يصبح منحرفاً في الكبر.
ومن أشهر هذه الدراسات دراسة وليام هيلي Willim Healy حيث درس ألف طفل جانح ووجد ما نسبته 46% من هؤلاء الأطفال جاءوا من أسر متصدعة، وكذلك أكدت دراسة الباحثين الينور Aluner و جلوك Cluck حول دور الأسرة في جنوح الأحداث، حيث خرجا بنتائج مشابهة لنتائج دراسة هيلي. (انظر: أسباب الجريمة وطبيعة السلوك الإجرامي؛ عدنان الدوري).
2- التعليم
حاول العديد من الباحثين الربط بين نسبة الأمية وبين معدلات الجريمة في المجتمع، ففي إحدى الدراسات دلت النتائج على أن نسبة الأميين تفوق نسبة المتعلمين بين المجرمين في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، في حين دلت دراسات أخرى على أن نسبة المتعلمين فاقت نسبة الأميين بين المجرمين في بلجيكا وبلغاريا وهنغاريا. (أصول علمي الإجرام والعقاب؛ رؤوف عبيد).
وفي دراسة قام بها الباحث الفرنسي كولي على مجموعة من المجرمين وجد فيها أن جرائم العنف والعدوان كالقتل والجرائم الجنسية والحرق العمد يقوم بها مجرمون ترتفع فيهم نسبة الأمية قياسا بالمجرمين الذين يرتكبون جرائم أقل عنفا كالسرقة والاحتيال والتزوير؛ والذين تقل بينهم نسبة الأمية. (مبادئ علم الإجرام؛ محمد خلف).
وهكذا تدل هذه النتائج الإجمالية لهذه الدراسات وغيرها في هذا المجال أنه يصعب الربط السببي بين انخفاض مستوى التعليم والوقوع في الجريمة؛ وإلا أصبحت الدول النامية والتي ترتفع فيها نسبة الأمية مجتمعات تعج بالمجرمين، وهذا ما يدحضه الواقع. ولكن الأمية قد تكون أحد العوامل المهيئة لارتكاب الفرد سلوكا إجراميا؛ متى ما تعاضدت عوامل أخرى لا بد منها سواء كانت وراثية أو بيئية لارتكاب الفرد جريمة ما. (انظر: التدين علاج الجريمة؛ رسالة دكتوراه في علم النفس؛ للدكتور صالح الصنيع).
وسائل الإعلام
تلعب هذه الوسائل دورا كبيرا في تشكيل شخصيات الأفراد في المجتمع، من خلال ما تبثه من برامج مختلفة تؤثر على سلوكيات الأفراد؛ وقد تدفعهم أحيانا للوقوع في الجريمة، لذا يجب الحذر من الدور الذي تقوم به هذه الوسائل، في دفع الأفراد أحيانا إلى ارتكاب الجرائم، وذلك من خلال عرضها للجرائم بشكل مغري ومشوق؛ يثير الخيال ويدفع الأفراد خصوصا صغار السن إلى تقليد هذا السلوك، نتيجة إضفاء طابع البطولة على الشخصيات الإجرامية من خلال مقاومتها ومغالبتها لقوات الأمن، وكذلك من خلال عرض صور من حياة البذخ والترف والمتعة التي يعيشها المجرمون.
كما أن بعض هذه الوسائل قد تدافع عن المجرمين بعرضها للحياة الصعبة التي يعيشون فيها من النواحي الاجتماعية والنفسية وأحيانا الاقتصادية، مما يوجد تعاطفا جماعيا معهم داخل المجتمع، وقد يصل الأمر ببعض هذه الوسائل إلى تنمية الشعور المعادي للسلطات القضائية ورجال السلطة والقانون عن طريق إصدارها لأحكام في قضايا جنائية قبل أن تصدر السلطات المختصة أحكامها؛ والتي قد تصدر أحكاما مخالفة لما تورده وسائل الإعلام مما يدفع أفراد المجتمع إلى النظر بسلبية لهذه السلطات.
وقد أكدت دراسات عديدة الدور الذي تلعبه هذه الوسائل في دفع الأفراد إلى السلوك الإجرامي؛ منها دراسة أجرت حول دور الإذاعة في جنوح الأحداث؛ حيث أكد أحد الباحثين من خلال استفتاء وزع على أكثر من 300 متخصص في شؤون طب الأطفال وأطباء العقل وعلماء نفس واجتماع على أن ما نسبته 81 في المائة من هؤلاء المتخصصين يعتقدون بوجود علاقة بين بعض برامج الإعلام وجناح الأحداث. (انظر: أسباب الجريمة وطبيعة السلوك الإجرامي؛ عدنان الدوري).
وهكذا يتضح الدور الذي تلعبه هذه الوسائل في وقوع الفرد في الجريمة؛ لذا يجب التنبيه لما يعرض فيه ليكون مفيدا صالحا يدل على الخير؛ وإن لم يكن كذلك كانت النتائج ضارة ومؤدية لانتشار الجريمة. (انظر: التدين علاج الجريمة؛ رسالة دكتوراه في علم النفس؛ للدكتور صالح الصنيع).
الوضع الاقتصادي
قد يؤدي الوضع الاقتصادي المتردي للدولة إلى دفع بعض الأفراد للقيام بسلوك إجرامي نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي أدى إليها ذلك الوضع.
فقد قام رينمانReinman ببحث الحالة الاقتصادية في مجتمع مدينة فيلادليفيا فوجد خلال الفترة من 1930م-1935م أنه كان هناك أزمة اقتصادية عنيفة؛ ووجد أن نسبة المنحرفين في المدينة عالية خلال تلك الفترة.
ويجب التأكيد هنا على أن العوامل الاقتصادية -سواء للفرد أو للدولة- غير كافية وحدها لقيام فرد بسلوك إجرامي؛ لأن هذا السلوك مركب يدخل فيه مجموعة كبيرة من العوامل يعضد بعضها بعضا حتى يمكن أن يظهر هذا السلوك في واقع مشاهد. (انظر: التدين علاج الجريمة؛ رسالة دكتوراه في علم النفس؛ للدكتور صالح الصنيع).