هل اعتماد منهج السلف في فهم النصوص الشرعية يؤدي إلى تحجير العقل وتجميد الفكر؟

هذه شبهة يرددها العقلانيون قديما وحديثا على اختلاف مشاربهم؛ في مقابل من يصفونهم بـ”النصيين”، وهي شبهة مستوردة من الفلاسفة المتقدمين، ومن المفكرين الغربيين في العصر الحديث.
وقد ظهرت عند المعتزلة متأثرين بالفلاسفة؛ ثم تأثر بها المتكلمون من بعدهم، كما برزت في العصر الحاضر عند المنتسبين للعقلانية في عالمنا الإسلامي؛ المتأثرين بالموقف الغربي من الوحي الذي يعد عندهم كابحا للعقل وحادا لنشاطه، فعندهم إما ما ظنوه وحيا؛ ومن ثمَّ عمى العقل، وإما التحرر من سلطة الوحي؛ ومن ثمَّ استنارة العقل واستقلاله وتنوع نشاطاته!
وهؤلاء الغربيون إن وجد ما يبرر هذا الموقف العدائي عندهم لما يسمونه وحيا وهي سلطة الكنيسة وخرافاتها البعيدة عن الوحي المنزل على أنبياء الله ورسله وما توارثوه عن الفلاسفة الذين اعتمدوا العقل المجرد لأنهم رؤوا أن العقل أوثق وسيلة ممكنة لعبور هذه الحياة بعد يأسهم من مورود أعلى منه، وذلك إما لأنهم لم يعرفوا الوحي أصلا، أو عرفوا شيئا يسمى وحيا، ثم اكتشف زيفه فكفروا به.
فهذا المبرر لا وجود له في ديننا الإسلامي، فقد أغنانا الله عن ذلك، وكفانا المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يأمن العنت راكبُها، فالوحي الرباني الذي بين أيدينا هو بعينه الوحي المنزل من عند الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يتغير، ولم يتبدل، ولذا لا يمكن أن يعارض الحقائق العقلية البرهانية.
وقد كان اعتماد الوحي عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان مع توفر العقل السليم هو السبيل إلى قيام حياة إنسانية تتحلى في كل جوانبها بالكمال –الممكن بشريا- آمنوا بهذا الدين في وعيهم، وتحققوه في حياتهم، فلم يكن وجودهما مشكلة، بل المشكلة في فقدهما أو فقد أحدهما. (السلفية وقضايا العصر؛ ص:199).
فالمنهج السلفي الوسطي المعتدل، الذي يمثل وسطية الإسلام واعتداله، والمبني على فهم سلف الأمة لنصوص الشرع وتطبيقاته العملية لها؛ كان هذا المنهج من هذه القضية الخطرة يتمثل فيما يلي:
1- أن العقل المقصود هنا والذي يعنيه السلف في أطروحاتهم وتقريراتهم هو تلك الغريزة الإنسانية التي يعلم بها الإنسان ويعقل، وهي كقوة البصر في العين والذوق في اللسان، فهي شرط في المعقولات والمعلومات، وهي مناط التكليف، وبها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات. (درء تعارض العقل والنقل 1/89 والأذكياء لابن الجوزي:23).
أما عند غيرهم ممن يسمون أنفسهم بالعقلانيين فلا يزال المفهوم عندهم غامضا، وهم أكثر الناس حيرة واضطرابا في تعريفه، بل حتى عند الغرب، مع كثرة الاتجاهات الغربية عندهم. وهذا ما اعترف به أحد كبار المنظرين العرب للعلمانية اليوم (انظر: أولية العقل نقد أطروحة الإسلام السياسي؛ عادل ظاهر ص:18).
وهو عند طائفة من الفلاسفة (المعجم الفلسفي:423).
والسؤال الذي يطرح نفسه؛ ما هو العقل الذي يوزن به كلام الله ورسوله؟
أي عقل يراد به أن يكون معياراً للنص الشرعي؟
ثم ما هو العقل المعاصر الذي يجب أن يحسب له ألف حساب، أهو العقل المسلم المؤمن إيماناً جازماً بصحة ما ورد في النصوص الشرعية؟
أم عقل المرتابين في دينهم المنهزمين نفسياً أمام مدنية الآخرين الدنيوية؟
أم عقل الكافر بدين الله تعالى وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم؟
العقل عند السلف هبة من الله تعالى ومنّة ربانية، أكرم الله به الإنسان وفضّله به على كثير من خلقه، وجعله مناط التكليف، وشرع له من الأحكام ما يكفل حمايته باعتباره أحد الضرورات الخمس التي أُنزلت الشرائع بالمحافظة عليها، وحرّم ما يضعفه أو يزيله.
وللعقل عند علماء السلف أهمية كبيرة، فهو كما قال الشافعي: آلة التمييز. قواطع الأدلة في الأصول للسمعاني؛ ص:249.
وهو “آلة العلم وميزانه الذي يعرف به صحيحه من سقيمه، وراجحه من مرجوحه، والمرآة التي يعرف بها الحسن من القبيح” (مفتاح دار السعادة؛ ص:120).
ولهذا فهو عندهم “شرط معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك”. الفتاوى 3/338-339).
4- والعقل عند السلف جزءٌ من الإنسان المخلوق، ومن ثّم فإن المعرفة الناتجة عنه تبقى دون العلم الذي يقدمه الوحي، إنه علم الإنسان أمام علم الله وهي معادلة واضحة وعقلية، فهو غير معصوم من الزلل، وهو آله إدراكيّة محدودة كمحدودية الحواس، لها حدود لا تتجاوزها.
يقول الشاطبي: “أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب؛ ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدارك جميع ما كان وما يكون؛ وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون. فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية؛ والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى” (الاعتصام 3/616).
5- ومن احترام السلف للعقل فلم يزجوا به فيما لا يحسنه، ولا يملك آلته، ولا يدخل في طوره، وإنما استعملوه فيما أمر الله تعالى باستعماله فيه، فإن الله تعالى وجه عقل المسلم إلى:
أ- استمداده دينه من مشكاة النبوة، وبين أن ركونه إلى عقله واعتماده عليه -وخاصة في المجال العقدي والأمور الغيبية- هلكة وضلال، وظنون وأهواء، قال الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} النجم:23. والعقل السليم يقرر التسليم للنص الشرعي ويأبى المعارضة والرد لما ورد عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ب- تدبره وتفكره واعتباره في كتاب الله تعالى المتلو إيمانا وتصديقا وفهما وإدراكا، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} ص:29.
ج- تدبره وتفكره واعتباره في كتاب الله المجلو في الكون والحياة البشرية والمادية، والتعرف على سنن الله فيها، وتسخيرها للجنس البشري. قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} يونس:101. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله” أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان، وانظر الصحيحة:1788.
والإمام الشافعي رحمه الله إنما ألف كتابه الرسالة لتأصيل منهج التعامل العقلي مع الشرع.
6- فلذا كان المكان الطبيعي للعقل من الوحي عند السلف أن يكون تحت الوحي، تابعاً ومسترشداً، ومستبصراً ومستنيراً، فالوحي هو الحاكم والموجّه وله السيادة، والعقل تابع يمارس دوره في حدود صلاحيته التي رسمها له الوحي، ولا يمكن أن يستقيم سيره إلا من خلال هذه التبعية، فإن التزم بها أثمر وأبدع، وإن خرج عنها كان وبالا على نفسه وعلى من تبعه.
بل إن العقل لا يمكن أن يستغني عن الوحي في الأمور الخارجة عن إطاره، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن إدراكها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال، والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة وذوق ووجد، كما قد يحصل للبهيمة.. والرسل جاءت بما يعجز العقل عن إدراكه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه. الفتاوى 3/339.
7- وبناء على ما تقدم فلا يمكن أن يكون التزام فهم السلف للنصوص الشرعية عائقا للعقل، كابتا له، كما يتوهم بعضهم، بل ضابطا له مصححا لمساره. فالمنهج السلفي المبني على فهم السلف الصالح يقوم على ضبط عقل المسلم بإطارات غائية ومنهجية، وبأصول عقدية وخلقية وتشريعية، كما يقوم بتطهيره من الجوانب التي قد تعكر صفوه وتؤخر مسيره وتحرف مساره من بدع وخرافات وفلسفات وأهواء، ثم هو بعد ذلك يدفع بالعقل لينطلق في الارتقاء والبناء تحقيقا للمصالح ودرء للمفاسد، وتشييدا لبناء الأمة الحضاري. (أبعاد غائبة عن الفكر الإسلامي المعاصر؛ طه جابر العلواني؛ ص:31).
فالسلفيون هم العقلانيون حقا؛ الذين وضعوا العقل في إطاره الصحيح واستعملوه فيما يبدع فيه، وحموه من المزالق والمتاهات التي قد تحرفه عن طريقه ومساره الصحيح.
فمن (سلك الطرق النبوية السامية علم أن العقل الصريح مطابق للنقل الصحيح، وقال بموجب هذا وهذا). (الصفدية:1/147؛ شبهات العصرانيين “الإسلاميين” حول اعتماد فهم السلف الصالح للنصوص الشرعية؛ دراسة نقدية؛ د.عبد الله الدميجي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *