بات موضوع إقحام الدين في السياسة؛ والتصريح بأن الإسلام يشتمل على نظام سياسي محكم؛ من المنكرات العظيمة بل من الموبقات الجسيمة التي يتابع ويحاسب عليها النظامُ العلمانيُّ كل من سولت له نفسه الصدع بهذا الأمر الذي نص عليه كتاب الله تعالى؛ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولم يخل منه كتاب من كتب الفقه والسياسة الشرعية.
وبات هذا الأمر من الطابوهات التي لا يحق لأحد أن يقتحمها؛ وطغى هذا التصور على المشهد الإعلامي الوطني؛ حتى كاد المغربي المسلم المسكين لا يسمع إلا هذا الصوت؛ إلى درجة أن أمينا عاما لحزب وطني حين أراد الاستدلال بآية من كتاب الله تعالى خلال ندوة، ارتجعت القاعة بأصوات المعارضين والمنددين بعدم جواز استخدام الدين في السياسة؛ بزعم أننا كلنا مسلمين ولا حق لأحد أن يشرك بين الدين والسياسة لأنهما منفصلين غير متداخلين.
وهذا الفصل النكد بين الدين والسياسة لم يعرفه المغرب من قبل؛ بل لم يعرفه العالم العربي والإسلامي على الإطلاق إلا بعد سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م على يد الماسوني مصطفى كمال أتاتورك؛ وبعد أن أصدر علي عبد الرازق المفصول من الأزهر كتابه الإسلام وأصول الحكم.
فليت شعري؛ كيف لمسلم يؤمن بالله ربا وخالقا ورازقا وحاكما؛ أن يقدم حكما على حكمه وقضاء على قضائه؛ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}..
ثم هل سياسة الناس أهون عند الله من مشية يقول الله في شأنها: {وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]، وأهون عند الله من شيء من المال يقول الله في شأنه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:39] وأهون عند الله من صاع شعير أو رطل ملح يقول الله في شأنهما: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء:181-182].
لقد بين الله تعالى قضية الحكم بشريعته بجلاء في غير ما آية من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من مثل قوله تعالى: {إِنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:58 ].
لكن؛ «..ليس دين زال سلطانه إلا بُدِّلت أحكامه، وطُمست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وهيه -ضعفه- أثر» كما قال الماوردي في أدب الدنيا والدين.
وهي كلمة حكيمة من عالم خبير، لها -كما قال الأستاذ محمد شاكر الشريف- ما يصدِّقها من شواهد التاريخ البعيد والقريب على السواء، وهي من جهة أخرى تبين الترابط الوثيق بين حفظ الدين والنظام السياسي.
هذا الترابط الذي يسعى العلمانيون بكل ما أوتوا من قوة إلى نفيه؛ بدعوى أنه ليس في الإسلام نظام سياسي محدد ينبغي الالتزام به، وغاية ما هناك وجود بعض المبادئ العامة في مجال السياسة، وأن فرض نظام معين للحكم -كنظام الخلافة- في كافة العصور وكافة الأقطار؛ إن لم يعد ضربا من المحال فهو يؤدي -على الأقل- إلى الحرج الذي رفعه الإسلام عن المسلمين!!
ولتجلية الصورة حول العلاقة بين الدين والسياسة؛ وهل لمبدأ فصل الدين عن السياسية في عالمنا العربي والإسلامي مسوغ مثل ما هو موجود في العالم الغربي؛ وكيف تصرف العلماء حيال أصحاب هذه الدعوة الباطلة؛ ومن كان وراء تمرير العديد من الشبهات والأفكار المغلوطة في هذا المجال؛ ارتأينا فتح هذا الملف.