نبتت نابتة في هذا الزمان خاصة أخذت على عاتقها إعادة قراءة وتفسير النصوص الشرعية من القرآن والسنة حسب ما تمليه عليها عقولها وأهواؤها، دون تقيد بالضوابط والقيود العلمية التي اجتمعت عليها الأمة وعلماؤها، وارتضوها خلفا بعد سلف، بل تفلتوا حتى من عقال اللغة ودلالاتها ومنطقها الذي تواتر عن العرب قبل الإسلام، حتى قال جارودي في كتابه “الإسلام الحي” عند طرحه لمنهجه الباطني لمدلولات النصوص: “يجب استبعاد كل قراءة حرفية وفرض البحث عن المعنى الداخلي خارج حدود اللغات التي ليست إلا زمنية، والكلمات التي ليست إلا رموزا” نقلا عن مفهوم النص – دراسة في علوم القرآن لنصر حامد أبو زيد ص: 43.
كل ذلك يجعل الناظر البصير متعجبا من هذا العبث ومستغربا من الاجتهادات والتأويلات الفجة التي خرج بها هؤلاء القوم لتوسعهم في قضية احتمالية دلالة نصوص الكتاب والسنة وظنيتها، بناء على نظريتهم الضالة المسماة بـ”تاريخية النصوص”، حتى قال أحد رؤوسهم وهو نصر حامد أبو زيد: “إن الخطاب الإلهي -القرآن- خطاب تاريخي..لا يتضمن معنى مفارقا جوهريا ثابتا له إطلاقية المطلق.. والبعد التاريخي يتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص.. فليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص.. وليس من المقبول أن يقف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي.. وإذا قرأنا نصوص الأحكام من خلال التحليل العميق لبنية النصوص.. وفي السياق الاجتماعي المنتج للأحكام والقوانين، فربما قادتنا القراءة إلى إسقاط كثير من تلك الأحكام، بوصفها أحكاما تاريخية كانت تصف واقعا أكثر مما تصنع تشريعا..” نقد الخطاب الديني 82-84.
فصار الاعتماد عندهم على مجرد الاحتمال والظن بعد طرح عدم اعتقاد قدسية النصوص، والدعوى إلى إعادة تشكيل دلالة النصوص وفق الواقع والثقافات المتغيرة، كل ذلك تحررا من وطأتها.
قال نصر حامد أبو زيد: “فإنتاج دلالة النص فعل مشترك بين النص والقارئ، ويكون من ثم فعلا متجددا بتعدد القرّاء من جهة، ومتجددا باختلاف ظروف القراءة من جهة أخرى” مفهوم النص – دراسة في علوم القرآن لنصر حامد أبو زيد ص 239.
وعنون عبدو الفيلالي لمقال له في جريدة الأحداث المغربية العدد:2296 بقوله: “العلمانية إعادة لقراءة مبادئ الأديان السماوية بمفاهيم حديثة”.
فخرجوا بذلك إلى مذاهب بعيدة منكرة خالفوا فيها المألوف عند الفقهاء في طرق الاستنباط وقواعد الاستدلال.
وحتى يظهر عبثهم وسوء مسلكهم يجب النظر في ذاك الاحتمال والظن صحة وبطلانا، وقربا وبعدا فإن “الأصل عدم..الاحتمال البعيد” (أضواء البيان 3/396)، بل هو أصالة مردود غير سديد لأن الاحتمالات البعيدة هي في حكم النادر “والنادر لا حكم له” (المدارج 1/45)، و”إذا فتح أورث الاضمحلال لكل ما يعول عليه في الاستدلال” (الجرح والتعديل للقاسمي 36).
والذين رفعوا راية ذلك غرضهم تحريف الكلم عن مواضعه، وليّ أعناق النصوص، حتى تفقد النصوص الشرعية هيبتها، وجعلها لعبة في أيديهم.
وقد جعلوا مسمى التأويل في عملهم هذا ملاذهم وملجأهم، ليضفوا على أعمالهم الصبغة العلمية!! تمريرا لأفكارهم ومعتقداتهم التابعة للفلسفات البشرية والأهواء الشخصية القائمة على التوهمات، والأقيسة العقلية الفاسدة التي أوحى بها إليهم شياطين الإنس من المستشرقين الغربيين، فجعلوا التأويل الواسع للنص “القاعدة” المطردة، فافتروا على الله الكذب والبهتان، بجعل اليقينيات ظنيات، والواضحات محتملات، والمسلمات للأخذ والرد قابلات، والتقول والقيل والقال، والله المستعان.
قال علي حرب: “فلا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقوله وتنص عليه أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله وبما تخفيه وتستبعده”!! انظر “نقد النص” ص : 10-11.
هذا مع أن الواجب شرعا التمسك بالنصوص الشرعية وبما دلت عليه، وطرح الاعتماد على الاحتمال والظن البعيد، فهذا الأخير أشبه بالأوهام والخيالات والتلاعب في الحقائق الواضحات.
قال ابن قدامة رحمه الله: “لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج” روضة الناظر 2/463.
وقال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: “مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم، فبه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية.
ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شُدِّد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن إليه حاجة مع ظهور المعنى، وكذلك ما جاء في الحديث في قوله: (أحجُّنا هذا لعامنا أو للأبد) وأشباه ذلك.
بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم، ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال، فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل، فذمُّوا بذلك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم” الموافقات 5/402.
وقد يقول البعض منهم: إن هذا الكلام منزل على الأخذ بمجرد الاحتمال في مقابلة النص بالمعنى الخاص عند الأصوليين، وهو الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، وأما إذا كان بخلاف ذلك فالأمر فيه سعة، فنقول: إنها دعوة للتخلص من قيود النصوص كما دعا علي حرب إلى قراءة النص بوصفه: “فضاء للتأويل الحر المفتوح”!! نقد النص ص 12.
مع العلم أنه من أنواع الدلائل الشرعية ما يسمى عند أهل العلم ب”الظاهر” وهو: “ما احتمل معنيين فأكثر، هو في أحدهما أرجح، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره” انظر روضة الناظر 2/29.
وحكمه عند علماء الأصول ومن سلمت لهم العقول: أن يُسار إلى المعنى الظاهر ولا يجوز العدول عنه إجماعا إلا بدليل أقوى منه.
يقول الرازي رحمه الله: “أن الظنَّين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعيناً عرفاً فيجب شرعاً، وقد أجمع الصحابة على العمل بالراجح، ولأنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح، وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بدائه العقول” المحصول 5/398.
ونقل الونشريسي المالكي رحمه الله في نوازل الصلاة عن ابن لب ما نصه: “والخلاف كثير وظواهر الشريعة هي الجادة بحيث يجب الرجوع إليها عند اشتباه الطرق واختلاف الفرق”. المعيار المعرب 1/297-298.
فلو جاز مخالفة ظواهر النصوص الشرعية بتوهمات العقول وآرائها، لكان إرسال الرسل وإنزال الكتب عبثاً وحاشا لله، ولترك الله للناس تدبير أمورهم بأنفسهم، ولما توعد في عشرات الآيات ومئات الأحاديث من لم يطع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب الأليم، لكن القوم رفعوا راية القراءة الجديدة للنصوص الشرعية باستماتة، وما ارتضوا إلا التمرد على كلام الله تعالى، والانسلاخ عن أوامره، والعبث بأحكام دينه.. كل ذلك تحت دعوى التجديد والإبداع، وما حقيقته إلا تبديد وابتداع.
ومن عظيم ما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله في هذا الباب قوله: “وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين، فلم يبق إلا الظاهر والمجمل، فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف. فالظاهر هو المعتمد، إذًا فلا يصح الاعتراض عليه لأنه من التعمق والتكلف، وأيضا لو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد لورود الاحتمالات وإن ضعفت، والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل، فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها وليس كذلك باتفاق” الموافقات 4/ 325.
ولأجل ذلك كله قرر العلماء رحمهم الله أن المحتمل والظن “الذي تقوم به حجة هو الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو ظن مقبول جار على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره، وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة وأمر واضح فلا يقال له احتمال وإنما هو تلاعب وهوس خيال” الجرح والتعديل للقاسمي 37- 38 بتصرف يسير.
وقال القرافي المالكي رحمه الله: “الاحتمال المعتبر إنما هو الاحتمال المساوي المقارب، وأما المرجوح فلا ” الفروق 1/227-مختصره.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أن العلماء قد اتفقوا على دور وأثر القرائن السياقية فيما يخص الظنون والاحتمالات، وعليه فإن دلالة اللفظ تكون ظنية في ذاتها لكن يقطع بالمعنى مراعاة للقرائن والسياق.
يقول التلمساني المالكي رحمه الله: “قد يتعين المعنى ويكون نصا فيه بالقرائن والسياق، لا من جهة الوضع” مفتاح الوصول 43.
وحتى ينسف أصحاب التأويل العابث وأرباب تقديس العقول أهمية القرائن السياقية ودورها في فهم النصوص، دعا بعضهم وهو “سيد القمني” إلى الحاجة إلى إعادة ترتيب القرآن وإعادة النظر فيه!! الأحداث المغربية العدد 1840.
فاحذر عبد الله وحذر غيرك من شذوذات هذه الفئة، صاحبة النظر المعكوس والرأي المنكوس، فلا دين اتبعوا، ولا ضوابط شرعية حكموا، ولا قواعد علمية أحكموا كالبعير بلا خطام، يخبط على الشوك ويأكله دونما فطام، ولو ادعوا أنهم أصحاب الفكر المستنير، وأهل الاجتهاد والنظر والتقدير، فإن الاجتهاد المعتبر في غير ما دلت عليه الأدلة بوضوح هو ما كان من أهله المعتد بهم، القائم على الاحتمال المساوي المستند إلى الأدلة الشرعية والقواعد المرعية مع مراعاة السياق وفهم السلف الصالح.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان:
أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعا وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد..
والثاني: غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض، وخبط في عماية واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره لأنه ضد الحق الذي أنزل الله كما قال تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ(، وقال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ(” الموافقات 131/5.