عمل دعاة الحداثة على تشويه صورة الشريعة بتصوير ظلم زائف للمرأة في أحكام الشريعة، وأن من سطا على حقها هم أقرب الناس إليها، زوجها الذي يمتنع عن منحها نصف ثروته إن هو طلقها من نفسه أو دعته هي باختيارها ورضاها إلى التطليق، وأخوها الذي يرث ضعف ما ترث، وبهذا تسرب التآكل والصراع إلى العلاقات الأسرية، وسعى إلى أن يلغي علاقاتها التراحمية.
وانتقل طابور الحداثيين للحديث عن ضرورة تغيير نظام الإرث في الإسلام لشفاء غليلهم في انتهاك لكل ما له علاقة بتجذر المغاربة في شريعتهم ودينهم. متغافلين عن حقيقة هذه الدعوات التي لا يمثلون عبرها إلا أجندات خفية على الصعيد الدولي، تحارب الأسرة، وتعمل على تعقيد الزواج مقابل إباحة العلاقات الجنسية قبل الزواج، تحت مسمى النضج الجنسي، كما هو الحال في فرنسا، حيث يُسمح بإقامة هذه العلاقات ابتداء من 15 سنة، فيما الزواج إلى حين 18 سنة، وفي هذا تناقض واضح وبين.
لكن لابد من إظهار بعض الحقائق لمن تغريه مظاهر الزيف الحداثي في موضوع تعديل نظام الإرث ببيان حقيقة تكريم الإسلام للمرأة باعتبارها أحد الركائز الأساس في الأسرة والمجتمع والدولة.
إن تفضيل الرجل على المرأة في الإرث في الحالات يقابله جملة تكاليف كلف بها الرجل منها: الإنفاق على الزوجة وعلى الأبناء القاصرين، وتحمل ما يترتب عليهم من الحقوق المالية بسبب اعتدائهم أو إلحاقهم الضرر بالآخرين مما يوجب الضمان في قيم المتلفات والتعويض عن الأضرار، ومنها الإنفاق على الأبوين الفقيرين، وتكفله بإخوته الأيتام القاصرين، في حين أن أخته قد لا يتيسر لها ذلك، لأنها قد تكون مرتبطة بزوج قد لا يقبل أن يضم إليه إخوتها القاصرين، ويضاف إلى ذلك واجبات عديدة ألزم بها الشرع الرجال منها: المساهمة الجماعية في أداء الديات تضامنا في حالة القتل الخطأ، وهو ما يعرف بالدية على العاقلة، وأداء الدية تضامنا كذلك في حالة ما إذا وجد قتيل داخل محلة ولم يعرف قاتله، وهو ما يعرف فقهيا بالقسامة.
وإلى جانب ذلك فقد يدعى الرجل اجتماعيا إلى أن يبذل نفقات مالية إضافية تطلب منه من أجل دعم ذوي رحمه والحواشي من قرابته في حالة مرضهم أو ترتب حقوق طارئة أو ديون عليهم. وإذا قيل إن نظام العاقلة قد انتهى فإن هذا يدحضه أن الناس لا زالوا يشتركون متضامين في أداء الديات في كثير من حالات القتل.
على أن التعليل بالإنفاق ليس هو التعليل الأوحد لمنح الرجل أكثر مما تأخذه المرأة في الإرث في الأحوال الخاصة، إذ هناك تعليلات أخرى يمكن إيرادها، ومنها: مراعاة نفسية الأشخاص والأسر التي قد ترفض نقل ملكيتها إلى أسر أخرى لا تحمل اسم عائلة الموروث، وتتكون من أبناء البنت أو الأخت الذين يحملون أسماء آبائهم، فإذا آل الإرث إليهم تصور من سيورث أن ماله سيؤول إلى أسرة أخرى، ولذلك يعمد كثير ممن يحتالون على نظام الإرث في الإسلام من الرجال والنساء إلى تفويت أموالهم إلى أبنائهم الذكور ببيوع صورية أو صدقات وهبات، وهم لا يقصدون بذلك إلا حرمان البنات. وهذا التصرف ليس خاصا بالمسلمين، ويشهد له عند غيرهم أن الكثير من الأسر في أوروبا وغيرها تحافظ إلى الآن على ملكيات عائلية قديمة سواء كانت قصورا أو قلاعا أو أبراجا أو مكتبات أو وثائق أو تحفا أو لوحات فنية أو أوسمة أو نياشين، أو مجوهرات نادرة، أو أسلحة قديمة، أو مؤسسات تجارية. ولو أن المرأة نالت حظها منها لأدخلت في ملكيتها أبناءها الذين قد ينتمون إلى أسر أخرى فينقلون إليها ما ورثوه عن أمهم.
ومراعاة لهذا الشعور الذي قد يفضي في بعض الأحيان إلى حرمان مطلق للمرأة من الإرث، فقد لطف الإسلام من نزعة التملك بأن منح المرأة أقل مما يرث أخوها في بعض الحالات لتسخو به النفوس، ولا يحتال الناس على إرثها، والملاحظ أنه ما زالت وإلى الآن بعض القبائل التي تحكمها أعراف خاصة تمتنع عن تمكين المرأة من حظها من الإرث، بل وتمنع أي فرد من أفرادها من أن يبيع عقارا شخصا أجنبيا عن القبيلة. وتستعمل ضده حق الشفعة العرفي لفائدة القبيلة، وقد أقرت الحماية الفرنسية كل الأعراف القبلية ودافعت عنها، لكنها رفضت مبدأ شفعة القبيلة، لأنه كان يحول دون أن يتغلغل الملاكون المعمرون الفرنسيون في ملك القبيلة. وحين يصر الناس على حرمان المرأة من الإرث بالتصرفات السابقة، فإن القانون يقف عاجزا عن حمايتها، لأن كل التصرفات تكون قد تمت وفق صورة قانونية مظهريا. والأكيد أن الأمر سيستفحل أكثر لو فرض أن تأخذ المرأة مثل حظ أخيها، وحين ذاك قد لا تنال شيئا.
وقد كان الواجب هو تظافر الجهود من أجل إزالة كل العوائق التي تحول دون استفادة المرأة من إرثها المشروع بدل إطماعها بسن قوانين تمنحها مثل إرث أخيها، وحينذاك لن يعدم الناس حيلا ووسائل كثيرة لحرمانها مثلما هم قادرون حاليا على حرمانها من حقها المشروع بنصوص القرآن الكريم لأنه.
ولأن قدرة الإنسان على الاحتيال والإلتواء على القوانين وتطويعها لأغراضه هي أكبر من قدرته على صوغها وإصدارها.
وعلى العموم فإن نجاح القوانين يتأسس على اقتناع أفراد المجتمع بصحتها وقدرتها على تقويم الخلل وضمان الحقوق، وإلا فإن بعض القوانين ستصير مجرد مظهر تجميلي يقدم للغير، وقد قدم الواقع مثالا على أن دعوى مطالبة المرأة بالحق في المال المكتسب خلال الحياة الزوجية لم تكن حقيقية، فلذلك لم يكن لهما أثر في الواقع العملي بعد أن نصت المدونة على إمكان الاتفاق على اشتراك الذمة المالية في عقد خاص مصاحب لعقد الزواج. لأن معظم الأسر كانت ترى أن عقد الزواج هو أسمى من أن تثار بين يديه قضية المكاسب المالية، ومن ثم قل توقيع عقد الاشتراك أو الالتفات إليه بالمرة.
كل هذه الإضاءات المتزنة توضح دواعي طريقة الإنصاف للمرأة في نظام الإرث الإسلامي، شرحها ووضحها الدكتور مصطفى بنحمزة في مقال مطول ومفصل له في الموضوع، اخترت تلخيصه بما يفيد في سجالنا هذا مع طابور التهافت الحداثي، الذي يمعن في قلب الحقائق وتزييفها للإجهاز على ما تبقى من مراكز ثقل قيمية وأخلاقية داخل المجتمعات المسلمة.
لا يمكن بأي حال أن نتفق مع من لا يستحضر فلسفة التشريع الإسلامي في تنظيم الإرث وفي تنظيم علاقة الرجل بالمرأة في مؤسسة الأسرة، إذ لا يستحضر دعاة الحداثة أن الإسلام يكرم المرأة لما يقدمها كمساعدة لزوجها في بناء أسرة تحفظ القيم والأخلاق والإيمان في المجتمع.