أول من بنى مدينة القدس منذ ثلاثين قرناً قبل الميلاد هم “اليبوسيون” وهم من العرب القدامى على ما جاء التصريح به في سفر (أخبار الأيام الأول 11: 4) “وذهب داود وكل إسرائيل إلى أورشليم أي يبوس، وهناك اليبوسيون سكان الأرض”، وسفر (أخبار الأيام الثاني 14:9) “وكل ملوك العرب وولاة الأرض كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان”، وسفر (يشوع 63:15) “وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم”، وسفر (القضاة 19: 11،12) “وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جداً قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبت فيها، فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا”، وعندما أراد داود أن يبني هيكلا للرب في القدس قام بشراء البيدر الذي كان ملكاً لرجل يبوسي يدعى أرونة على ما جاء في سفر (صموئيل الثاني 24: 21-25) إلى غير ذلك مما يكشف من النصوص التوراتية ذاتها عن حقيقة أن القدس (يبوس) مدينة العرب اليبوسيين وأنهم الذين أقاموا وتعاقب على حكمهم فيها ملوك العرب دون أن يشاركهم في سكناها أحد من بني إسرائيل وأنها كما وصفها سيد الغلام الإسرائيلي بالنسبة إليهما ولكل إسرائيلي من باب أولى (مدينة غريبة).
إن القول بثبوت أحقية اليهود في بلاد المسلمين المقدسة بحجة الهيكل وبمجرد انتسابه لنبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم الذي يعدونه نبياً من أنبيائهم، قول خاطئ ومجاف للحقيقة، ذلك أن نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم وجميع آبائه وأجداده من النبيين ما كانوا قط في يوم من الأيام يهوداً أو نصارى أو عابدين لعجل أو وثن، والعقل والنقل يقضيان بهذا، فجميعهم كانوا على ملة أبيهم إبراهيم حنيفاً مسلماً، والشرك أبغض ما يكون إلى قلوبهم، وهم ما بعثوا إلا لترسيخ عقيدة التوحيد التي هي في الأساس ملة إبراهيم ووصيته إليهم، واليهودية والنصرانية ما ظهرت وما وجدت إلا فيما بعد، فأنى له أن يكون هو أو أحد من أبنائه كذلك، قال تعالى: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ”؟، وعليه فعندما يقرر القرآن حقيقة “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”، يكون قد وافق العقل في تقرير ما كان عليه أبو الأنبياء وما كان عليه أبناؤه بالطبع من التوحيد الخالص، وما عند القوم من دليل يثبت أنهم أو أن واحداً منهم سواء نبي الله سليمان أو غيره كانوا على غير ذلك.
وصرح “جوستاف لوبون” في كتابه (حضارة العرب) أن ما يسمى بالهيكل ما هو إلا أكذوبة، كما صرح “الكاردينال إسطفانوس الأول” بطريك الأقباط الكاثوليك في جريدة الأهرام المصرية يوم الجمعة 22/8/1969- أي عقب إحراق اليهود للأقصى في 12/8/1969م – بأن “إحراق إسرائيل للمسجد الأقصى تحدٍّ لكل النبوات والكتب المقدسة”، وأردف يقول: “إذا كان اليهود لا يؤمنون بذلك فليرجعوا إلى التاريخ وليروا ما صنعه أجدادهم في عهد الإمبراطور “يوليانوس” الذي بنى على أنقاض مدينة القدس، إيلياء عام 62م، حين حاولوا إعادة بناء هيكل سليمان فهبطت ألسنة النار وزلزلت الأرض وأزالت كل ما صنعوا”.
من هنا نخلص إلى أمرين مهمين:
الأول: أن الديانات لا تقوم على الأعراق أو النزعات، وأن الإسلام ما كان قط للعرب وحدهم وإلا كانت الديانات السماوية حواجز تحول دون التقاء الشعوب.
والأمر الثاني: أن المسلمين من سلالة إسماعيل هم الوارثون الشرعيون لتراث الأنبياء لأنهم الذين آمنوا برسالاتهم الحقة بعد أن كفر بها غيرهم، وهم الذين ورثوا بيت المقدس وسائر المقدسات الإبراهيمية والموسوية والسليمانية بعد أن تسبب غيرهم في خرابها، وهم الذين حافظوا ـ على مدار الأحقاب والأزمان- على تلك المقدسات واعتبروها جزءاً لا يتجزأ من تراثهم الديني والروحي بعد أن شوه غيرهم معالمها بالحفائر والجرافات.
ألا يدل كل هذا على أحقية المسلمين في هذه المدينة المباركة، سيما وأنه لا يوجد أي معلم أثري لليهود في أرجائها؟
ألا يدل ذلك أيضاً وفي ظل ما يحدث للمسلمين هناك وفي بلادهم من انتهاكات لهم ولمقدساتهم على أنهم أولى الناس في الحفاظ على الممتلكات والأرواح والمقدسات؟
ولعلنا ندرك الآن أكثر من أي وقت مضى أن دين الله الخاتم يحتم على المنتسبين إلى محمد وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام الراغبين في ملة أبيهم إبراهيم، أن يحرروا تلك البقاع المباركة باعتبارهم وحدهم أصحاب الحق الشرعي والتاريخي فيها، والمؤتمنين عليها وبخاصة أن التاريخ يشهد ولا يزال سيل الفظائع التي يرتكبها معشر يهود في حقها وفى حق أصحابها المقيمين بها، كما يشهد ما أصابها عندما احتلها الصليبيون من قبل وقتلوا وذبحوا فيها وفى مسجدها- باسم المسيح نبي الرحمة والمحبة الذي هو منهم براء- ما يقرب من السبعين ألفاً من المسلمين دون تمييز بين شيخ أو امرأة أو عالم دين أو طفل أو مقاتل، وبقيت ترزح تحت أيديهم تسعين عاماً أهلكوا خلالها الحرث والنسل إلى أن حررها القائد المسلم صلاح الدين عام 1187م.