التقية العلمانية والنفاق اللائكي نبيل غزال

صحيح أن عبارات عصيد مستفزة ومقلقة لضمير كل مؤمن يحب نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ويغار على دينه؛ وهذا أمر مطلوب وإيجابي، إلا أنها تصريحات بعيدة كل البعد من أن تنال من سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، خاصة إذا علمنا مخرج هذا الهراء؛ وأن ما تفوه به عصيد ما هو إلا تكرار لكلام قديم روجه من قبل المستشرقون الذين أفنوا أعمارهم واحدودبت ظهورهم دراسة وبحثا عن منافذ للطعن في الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام؛ فزعموا أن الإسلام انتشر بالسيف؛ وأن محمدا كان شخصا إرهابيا وصاحب مشروع سياسي جعله مطية للاستيلاء الكامل على السلطة..
وتبعهم على ذلك العلمانيون الذين يعيشون في أراضي المسلمين؛ فطعنوا في مقام النبوة بعبارات شديدة جدا؛ فاتهم الجزائري المتفرنس محمد أركون -مثلا- نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم: “بأنه يعامل مخالفيه معاملة قاسية جدا وسلبية تماما”؛ (القرآن في التفسير الموروث:75)، وزعم أيضا أن: “التاريخ النفسي أو الخيالي للبيئات الاجتماعية المختلفة ساهمت في تحويل شخصية محمد التاريخية إلى شخصية رمزية مثالية عليا تتجاوز معطيات الواقع والتاريخ؛ أي الانتقال من مرحلة محمد الحقيقي أو التاريخي إلى مرحلة محمد المثالي الذي يتجاوز التاريخ؛ ثم أصبحت هذه الصورة الأسطورية المضخمة التي شكلتها الأجيال المتتالية من المسلمين تحجب عنا الصورة الحقيقية أو التاريخية” (قضايا في نقد العقل الديني 145).
وقال حسن حنفي: “دفع الأنبياء الناس إلى التطرف؛ بدلا من تقويمهم؛ في حين استطاع الملوك استمالتهم دون أدنى مقاومة؛ لم يتسامح الأنبياء معهم حتى مع أكثر الملوك إيمانا إذا كان سلوكهم مناقضا للدين؛ أي أن الأنبياء أضروا بالدين أكثر مما نفعوه” (مقدمة لرسالة اسبينوزا: في اللاهوت والسياسة:96).
وقال طيب تيزيني عن لغة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “ليست لغة الحوار الهادئ والمنظم؛ إنها لغة مشحونة بالتوتر واللهاث وراء التخويف من جهنم” (مقدمات أولية:426).
والنقول حول هذا الانحراف العقدي كثيرة جدا؛ وليست قاصرة على مقام النبوة بل تنسحب على التدين كله؛ لكن ما يجب أن نعيه جيدا لنفهم مرجعية مثل هاته التصريحات ومخرجها؛ أن الإسلام والعلمانية نقيضان لا يجتمعان؛ فالإسلام هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد؛ والانقياد له بالطاعة؛ والبراءة من الشرك وأهله؛ بينما العلمانية هي البراءة من كل أمر غيبي؛ والانكفاء على الذات والنفس؛ والاكتفاء بها في معرفة الحقائق وطبيعة الكون والنفس والحياة؛ فهي مذهب مادي وضعي ينطلق من الإنسان ويتوجه إليه وينتهي به؛ فلا يكون الإنسان تابعا إلا إلى نفسه ولا ممنوعا من شيء إلا من تلقاء ذاته. (انظر موقف الليبرالية في البلاد العربية من محكمات الدين؛ للدكتور صالح الدميجي).
فانطلاقا من هذه المرجعية العلمانية يدلي عصيد بمثل تلك التصريحات؛ ويقارن كل ما يرد عليه أو يسمعه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأخبار التاريخية والأحداث والوقائع والمستجدات؛ بما نصت عليه المرجعية العلمانية التي يدين بها ويعتقد أنها الحق المطلق، لذلك نراه لا يفتأ يكرر عبارة أن هذا الأمر يخالف اتفاقيات حقوق الإنسان الكونية (الغربية)؛ فما وافق حقوق الإنسان الغربية فهو عنده حسن؛ وما خالفها فهو تخلف ونكوص يجب تجاوزه؛ لأن المرجع بالنسبة له وأمثاله هو اتجاه التاريخ وليس الماضي.
وهو بالمناسبة كغيره ممن يشاركه نفس الأيديولوجيا يمارس نوعا من التقية العلمانية أو النفاق اللائكي؛ فعصيد يعلم جيدا أنه يعيش داخل مجتمع مسلم يرفض العلمانية ونظرياتها وأطروحاتها؛ لذلك يحجم عن البوح بكل ما يعتقده ويؤمن به؛ لأنه إن فعل ذلك خسر معركته في بدايتها؛ فهو يتظاهر بأنه مع قراءة تنويرية للإسلام؛ ويؤكد في كل مناسبة يكون فيها الدين موضوع نقاش أنه ليس ضد الإسلام وإنما ضد قراءة معينة للنصوص الدينية؛ وضد القراءة السلفية بالذات للتراث؛ في حين أن جل طعوناته وانتقاداته تستهدف بالأساس ثوابت الدين ومسلمات الشريعة.
وهي خطة يتبعها العديد من العلمانيين الذين يعيشون داخل مجتمعات المسلمين؛ تمكنهم من نشر أفكارهم؛ وتجعلهم في الوقت نفسه يمارسون إرهابا فكريا وتسلطا أيديولوجيا ضد كل من يشكك في إسلامهم وصدق انتمائهم ووطنيتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *