لماذا اخترنا الملف؟

كان الإفتاء منذ فجر الإسلام أحد أهم الوسائل لنشر وتبليغ الأحكام الشرعية؛ ذلك لأن الفتوى في طبيعتها وأصلها ما هي إلا بيان لحكم الله تعالى في الوقائع؛ فهي بذلك تمثيل للمنصب الذي تولاه الله بنفسه؛ كما في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} النساء، أيضا فالمفتي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى قيامه بوظيفة البيان {وََأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
ومن هنا جاءت ضرورة الفتوى في الإسلام؛ فهي حلقة الوصل بين أحكام الشريعة من جهة وعموم الناس من جهة أخرى؛ وذلك لإقامة الناس في أمور معاشهم ومعادهم وفق أحكام الشريعة؛ وفي ذلك تحصيل الخير كل الخير لهم؛ فالشريعة كما بين أهل العلم ما جاءت إلا لتحصيل المنافع والمصالح للبشر.
فإن كانت وظيفة الإفتاء بتلك الأهمية والمكانة؛ فقد بات يشوبها كثير من الخلل والانحراف أخرجها عن مسارها؛ وخاض فيها من ليس أهلا لها؛ حتى أن بعض المفتين وأمام ضغط العوامل السياسية التي تمر بها الأمة الإسلامية، وكثرة دعاوى العلمانيين والليبراليين المغرضة وطعونهم في الإسلام، ومحاولة منهم لكي يبرروا للناس الواقع الذي يعيشون فيه؛ تجدهم أمام هذه الضغوط يتهاونون في أمر الدين، ويحاولون إضفاء صفات ومعاملات وأحوال جديدة عليه لكي يبرهنوا على أنه دين متطور مناسب لهذا الزمن.
وفي هذا العصر الذي طغت فيه المادية على الروحية؛ وكثرت فيه المغريات؛ بات يطعن في الفتوى وفي أهميتها وجدواها من انتكست فطرته؛ وبان جهله.
بل بات يخوض فيها من يرى أن الإسلام لم يعد صالحا ولا مصلحا في الزمن الصناعي والحداثي! وأن من التطرف “أن نحاول اليوم تطبيق نظام اجتماعي يعود إلى ما قبل خمسة عشر قرنا” أو أن “نبحث عن فتوى الفقيه في توافه الأمور طلبا للجنة؛ حتى نكون في سلام مع الله في السماء” كما ادعى العلماني المتطرف عصيد.
إن الطموح العلماني لعزل المجتمع عن تأثير الدين ما زال قائما؛ يحدوهم فكريا وعمليا إلى ترديد الزعم بأنه لا يمكن قيام مجتمع على أساس ديني بعبارات متنوعة؛ مستكبرين وضاربين بعض الحائط التاريخ والواقع.. ومشكلين لأنفسهم مجتمعا فكريا وعمليا يحاط بالطقسية الكهنوتية الكاملة، لا يقبلون معها نقدا ولا يرتضون أسئلة ولا يسمحون لغيرهم أن يدخل مجتمعاتهم الإعلامية أو المنبرية أو التأليفية.
لم تكن الفتوى منذ أن عرفها المسلمون تقف عند حد الإفتاء في القضايا الفردية؛ كقضايا الصلاة أو الطهارة أو البيوع إلى غير ذلك مما تعلق بالفرد المسلم؛ بل تجاوزت ذلك إلى مساحة القضايا الجماعية؛ فتشابكت الفتوى وتفاعلت مع التحديات والإشكالات الحضارية والإستراتيجية التي تواجه المجتمعات المسلمة؛ كل ذلك من منطلق مسؤولية المفتي في تصويب الواقع.
هذا التأطير الشرعي للحياة داخل المجتمعات الإسلامية هو ما يخشاه العلمانيون؛ ويناضلون لمنع وقوعه وحدوثه؛ وقد أثيرت مؤخرا زوبعة كبيرة بخصوص بعض الفتاوى نشرتها يومية التجديد في ركن (قال الفقيه)، ثار عليها اليساري محمد الساسي واعتبرها فتاوى ضد العقل والمنطق والقانون!
وقد قام بإشهار حملته على تلك الفتاوى التي اعتبرها أصولية مجموعة من المنابر الإعلامية ذات التوجه العلماني؛ علما أن الفتاوى التي اعتبرها أصولية ووصفوها بالماضوية هي فتاوى صدرت عن مجامع فقهية كبرى؛ وأفتى بها من قبل كبار علماء الأمة؛ ونص عليها مذهب البلد؛ ويفتي بها اليوم أعضاء المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى؛ أي العلماء الرسميون الذين يعملون في المؤسسات الدينية الرسمية.
ولا أدري لماذا ثارت حفيظة العلمانيين ضد بعض الفتاوى الشرعية واعتبروها ضد العقل والمنطق والقانون؛ ولم يأبهوا قط لما تنشره الجرائد والمجلات؛ التي اتخذوها قاعدة لإطلاق أراجيفهم وادعاءاتهم الكاذبة؛ من مخالفات صريحة للدين والعقل والقانون والمنطق والواقع والحس والتجربة والفطرة..؟!
إننا نشهد اليوم سيناريو جديد لمحاكم التفتيش العلمانية؛ وذلك أنه لما خالفت الفتاوى الشرعية العقيدة الكونية الجديدة؛ وأحكام اتفاقيات حقوق الإنسان -وفق المنظور الغربي- قامت هاته المحاكم بفتح تحقيق جديد بخصوص هذه الجريمة الإنسانية البشعة!
ولإطلاع قرائنا الكرام على فصول هاته المعركة الجديدة؛ وإبراز دور الإفتاء في تنمية المجتمعات المعاصرة، وأسباب تراجع أثر الفتوى في المجتمعات الإسلامية؛ ارتأينا فتح هذا الملف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *