منذ أكثر من عام ونصف العام والفلوجة تعاني من حصار حكومي شديد القسوة، لكنه في الشهرين الأخيرين -وبالتزامن مع بدء العمليات العسكرية الحكومية ضد المدينة لإنهاء سيطرة تنظيم داعش عليها، على اعتبار أن ذلك جزء من الخطط الحربية لإضعاف الطرف المقابل- أصبح الحصار أشد ضراوة، وسنحاول في هذا المقال الابتعاد عن الجانب السياسي والعسكري في قضية المعارك الجارية في الفلوجة، وسنركز على القضية الإنسانية والحصار الظالم المفروض على المدينة.
وهنا نرى من الضرورة بمكان محاولة إثبات الحقائق الآتية:
– هل جميع من هم داخل المدينة من مقاتلي داعش ولا يوجد بها مدنيون؟
– هل هناك حصار حكومي ومليشياوي حقيقي على المدينة، وأن آثار الحصار قد بدأت تسحق المئات من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، أم أنها خدعة عسكرية من مقاتلي تنظيم داعش؟
بالنسبة للقضية الأولى سنحاول إثباتها بتصريحات لمسؤولين محليين هم جزء من الحكومة الموجودة في الأنبار، ومرتبطون بحكومة بغداد، وهؤلاء لا يمكن الطعن في شهادتهم لأنهم جزء من الفريق السياسي والحكومي.
التصريح الأول للسيد سعدون الشعلان، قائم مقام قضاء الفلوجة، الذي حذر فيه من أن «نحو خمسة آلاف عائلة محاصرة داخل مدينة الفلوجة مهددة بالموت، بعد نفاد الأدوية والمواد الغذائية، نتيجة عدم سماح قوات الأمن بدخول المساعدات للمدينة التي يسيطر عليها تنظيم داعش، والقوات الأمنية العراقية التي منعت دخول المواد الغذائية والأدوية إلى الفلوجة لمنع استغلالها من تنظيم داعش، لكن بالمحصلة النهائية المتضرر الوحيد من الإجراء هم المدنيون الذين بات الموت يتهددهم بشكل حقيقي».
وفي بداية شهر أبريل الحالي، صرح صباح كرحوت رئيس مجلس محافظة الأنبار لقناة العربية الفضائية بتصريحات خطيرة، جاء فيها أن «2% من الفلوجة مع داعش، وأن الأطفال يموتون بالعشرات يومياً، والغذاء والدواء غير موجود بالفلوجة، وأناشد المجتمع الدولي لإنقاذ 150 ألف نسمة سوف يموتون بالفلوجة».
التصريح الثالث في التاسع من فبراير الماضي، والذي أعلن فيه رئيس مجلس قضاء الفلوجة الشيخ طالب حسناوي أن «أكثر من عشرة آلاف عائلة محتجزة داخل القضاء».
هذه التصريحات الحكومية الصريحة والواضحة تؤكد أنه يوجد أكثر من 150.000 مدني داخل المدينة، وهذه الأعداد الهائلة اليوم ربما يمكن أن نقول عنها أن نصفهم -لا قدر الله- في عداد الأموات، نتيجة استمرار العمليات العسكرية، والحصار الاقتصادي، ثم لا ننسى تصريح رئيس مجلس محافظة الأنبار الذي أكد فيه أن داعش تمثل 2% فقط من أعداد السكان، فهل يعقل أن يقتل 98% من أجل القضاء على 2% من مقاتلي داعش؟!
وبعد أن أثبتنا أن 98% من الموجودين في الأنبار هم من المدنيين وفقاً لتصريحات حكومية، نعود للتساؤل الثاني الذي طرحناه في بداية الكلام وهو:
هل هناك حصار حكومي ومليشياوي حقيقي على المدينة، وأن آثار الحصار قد بدأت تسحق المئات من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، أم أنها خدعة عسكرية من مقاتلي تنظيم داعش؟
وبالأسلوب ذاته سنحاول الاعتماد على التصريحات الحكومية بالدرجة الأولى ثم ندلل على هذه الحقائق أيضاً بتقارير المنظمات المحلية والإقليمية والدولية.
حقيقة وجود حصار ظالم على الفلوجة أكدها السيد صباح كرحوت، رئيس مجلس محافظة الأنبار في حواره مع قناة العربية الفضائية آنف الذكر، والذي بين فيه أن «العشرات من المدنيين يموتون نتيجة شح الغذاء والدواء».
كرحوت قال أيضاً لموقع السومرية الإخباري إن «اثنين من الأطفال الرضع ورجلاً مصاباً بمرض السكر توفوا في مدينة الفلوجة بسبب عدم وجود حليب الأطفال والغذاء ودواء الإنسولين لمرضى السكر في مستشفى المدينة، وإن اثنين من كبار السن من أهالي الفلوجة تم إنقاذهما بعدما حاولا الانتحار بإلقاء نفسيها من فوق جسر الفلوجة في نهر الفرات بسبب الجوع».
هذه الحقائق أكدتها في الوقت ذاته لجنة حقوق الإنسان في أكبر مؤسسة حكومية، وهو مجلس النواب العراقي، حيث أعربت اللجنة، وعلى لسان رئيسها النائب أرشد الصالحي «عن قلقها من الحصار الذي تفرضه قوات الأمن على مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار غرب العراق لأجل استعادتها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، وأن تأخر القوات في استعادة المدينة وحصارها خلفا نقصاً في الغذاء والدواء».
وبهذا يمكن أن نجزم أن ما يجري في الفلوجة هو حرب إبادة للأهالي بحجة محاربة داعش، وإلا فإن تصريحات أعضاء المجالس المركزية والمحلية آنفة الذكر كافية لإثبات أن الحصار على الأهالي وليس من أجل المعركة مع داعش!
السؤال الذي يطرح هنا، وعلى جميع العقلاء والحكماء في العالم أن يحاولوا إيجاد الجواب الشافي له، هو: هل صباح كرحوت رئيس مجلس الأنبار، وسعدون الشعلان قائم مقام الفلوجة، والشيخ طالب حسناوي رئيس المجلس البلدي في الفلوجة، وأعضاء لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، هل هؤلاء جميعاً من الدواعش حتى يحاولوا تضليل الرأي العام؟ أم إننا أمام حقيقة مرة وهي أن المدينة تتعرض لجريمة قتل متعمد؟!
هذه الحقائق أكدها كذلك مركز جنيف الدولي للعدالة بتصريحه أن «صمت الأمم المتحدة عن الحصار الشامل الذي تفرضه السلطات العراقية على الفلوجة منذ أشهر يجعلها مشاركة في ما يحصل من موت جماعي لسكانها وجريمة الإبادة الجماعية التي تحصل فيها، وإن تواصل القصف اليومي أدى إلى جريمة إبادة لعدد كبير من السكان المدنيين، في حين تلوذ أجهزة الأمم المتحدة بالصمت، ولا تتخذ الإجراءات اللازمة لمواجهة مثل هذه الحالات كما يجري في أماكن أخرى من العالم».
إن القيمة الإنسانية تتطلب من الحكومة أن تقف موقفاً صحيحاً وصريحاً يقضي بفتح ممرات آمنة لدخول المواد الغذائية للمدينة، حتى لو افترضنا وصول قسم منها لداعش، وذلك لأن فرضية قتل 98% من أجل قتل 2% فرضية مليئة بالظلم والاستخفاف بالنفس البشرية.
فهل بعد هذه الإثباتات والحقائق من حجة لأدعياء الموت والظلم والخراب؟!
وهل هذه الملشيات وحوش بشرية، أم مجاميع انسلخت من إنسانيتها؟! (الحالة الإنسانية في الفلوجة؛ د.جاسم الشمري).