سنريهم آياتنا..

قضى الله تعالى بأن يبتلي عباده بالإيمان بالغيب؛ والله سبحانه لا يُرى في الدنيا ولا يدرك بالحواس الخمس؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “واعلموا أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت”.

لكن الله تعالى أنزل وخلق أدلة تدل عليه سبحانه وعلى عظمته، وهذه الأدلة قطعية تفيد العلم اليقيني الذي لا يترك مجالا للشك ولا للتردد؛ وجماع تلك الأدلة أربعة:

الدليل الأول: دليل الفطرة
وهو شعور مغروس في النفس الإنسانية بوجود الله تبارك وتعالى وهيمنته، وأصله الميثاق الذي أخذه الله تعالى على عباده في عالم الذر:
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف/172]
وللعلماء في تفسير هذه الآية مسلكان:
الأول: تفسيرها بالأخبار المروية في إخراج ذرية آدم من صلبه وتكليمه تعالى إياهم ونطقهم ثم إعادتهم إلى صلب أبيهم وهي كثيرة؛ قال الشيخ المقبلي: “ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك”اهـ.
ومن تلك الأحاديث ما رواه أحمد وغيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان -يعني بعرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال ألست بربكم” قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين..”) الصحيحة 1623).
وبهذا التفسير قال جماعة من السلف والأئمة.
الثاني: قال أصحابه إن المراد بهذا الإشهاد فطرهم على التوحيد قال الجشعي : أي أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته من أعضاء سوية وحواس مدركة وجوارح ظاهرة وأعصاب وعروق وغير ذلك مما يعلمه من تفكر فيه وكلها تدل عليه وعلى صفاته ووحدانيته؛ فبالإشهاد بالأدلة صار كأنه أشهدهم بقوله” اهـ.
وقد استدلوا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا ويولد على الفطرة” [متفق عليه].
وقد قال بهذا القول جماعة من الأئمة؛ كابن القيم وابن كثير، وردوا القول الأول وقالوا لا علاقة للآية بتلك الأحاديث التي ليس فيها إلا الإخراج وجعل الذرية قسمين قسم إلى الجنة وقسم إلى النار وأما الأحاديث التي فيها الإشهاد فهي متكلم فيها وإن صحت فهي موقوفة على ابن عباس وعمر.
ويظهر -والله أعلم- أنه يمكن الجمع بين الرأيين في تفسير الآية؛ فربوبية الله تعالى مركوزة معرفتها في القلوب وليس الإخبار بأخذ الميثاق إلا مؤكدا لها ومبينا لأصلها.

الدليل الثاني: دليل الهداية والإلهام
وقد قرنه الله تعالى بدليل الخلق فقال سبحانه عن موسى عليه السلام: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}
من ذلك مثلا “هداية الحيوان إلى التقام الثدي عند خروجه من بطن أمه والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت؛ والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه؛ وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان؛ كهداية النحل إلى سلوك السبل التي فيها مراعيها على تباينها ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال؛ وما يغرس بنو آدم.
وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب وذلك أن لها أميرا ومدبرا وهو اليعسوب وهو أكبر جسما من جميع النحل وأحسن لونا وشكلا؛ وإناث النحل تلد في إقبال الربيع وأكثر أولادها يكن إناثا وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها بل إما أن تطرده وإما أن تقتله إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك؛ وذلك أن الذكر منها لا تعمل شيئا ولا تكسب ثم تجمع الأمهات وفراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى من المروج والرياض والبساتين والمراتع في أقصد الطرق وأقربها؛ فيجتني منها كفايتها فيرجع بها الملك فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها ولم يدع ذكرا ولا نحلة غريبة تدخلها فإذا تكامل دخولها دخل بعدها وتواجدت النحل على مقاعدها وأماكنها فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلمها إياه فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه ويترك الملك العمل ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار ثم تقتسم النحل فرقا فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب؛ وهم حاشية الملك من الذكورة ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه والشمع هو ثفل العسل وفيه حلاوة كحلاوة التين؛ وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل فينظفه النحل ويصفيه ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها.
وفرقة تبني البيوت وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعها وقتلها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال وتعديهن ببطالتها ومهانتها وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته فيبنى له بيتا مربعا يشبه السرير والتخت فيجلس عليه ويستدير حوله..” [شفاء العليل 1/66].
ثم استطرد الإمام ابن القيم في وصف حياة النحل بما يدل على عظمة الخلاق الهادي سبحانه .
فكيف وفق هذا المخلوق إلى هذه التراتيب وليس له عقل يخطط به؟
الجواب:
{ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}.
وقال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى/1-3].
وقال عز وجل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل/68، 69].
وأوحى هنا بمعنى: ألهم.

الدليل الثالث: دليل الآيات المخلوقة
قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت/53].
وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد/2-4]
وقال عز من قائل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة/164].
أي لعلامات وبراهين دالة على قدرتنا وعظمتنا.

الدليل الرابع: دليل الآيات المنزلة (كلام الله)
وهي الكتب السماوية التي أنزلها الله لهداية البشرية إلى أصول مصالحهم في المعاش والمعاد؛ وأعظمها وأجمعها القرآن الكر يم الذي دل إعجازه في اللغة والتشريع والإخبار بالغيب على أنه كلام الله، الدال عليه، المعرف بأسمائه وصفاته، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم أعظم دلائل نبوته في قوله عليه السلام: “ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي..” متفق عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *