المغرب يقول لا للغزو الصفوي الحلقة الأولى حامد الإدريسي

لم يكن غريبا على المغرب أن يطرد التشيع ويدفعه عن أرضه الطاهرة، فالشعب المغربي بفطرته يحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، فلا يمكن لمذهب يلعن عائشة الصديقة رضي الله عنها، ويكفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتهم أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بالردة، أن يعيش في بلدة أسست من أول يوم على حب أهل البيت، واحتضنت أول دولة لآل محمد على يد قبائل أوْرَبَة التي تنازل مَلِكها عن مملكته لما وفد عليه حفيد علي بن أبي طالب المولى إدريس بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.

سبق أن كان للشيعة دولة مدوية في المغرب، قاتلت الناس حتى يقولوا علي ولي الله، ويكفروا بدينهم الذي كانوا عليه، لكن المغاربة أبوا أن يقبلوا بهذا الهراء، ورفضوا الولاية التي يزعم الشيعة أن من اعتقد بها دخل الجنة، ومن ردها كان في النار.
وسنقف وقفة مع انهيار الدولة الفاطمية في المغرب، لنرى كيف أن دولة مكثت ما يقرب من مائتي سنة تخرج دون أن يبقى لها أتباع، ودون أن يتمسك بمذهبها من المغاربة إلا شرذمة يسيرة، ثم يتلاشى المذهب الشيعي من المغرب نهائيا.
فبعد أن دخل المهدي المغرب حوالي سنة 296 بدأ ينشر المذهب الشيعي بالقوة، ومن ذلك: (أنه أمر يوم الجمعة أن يذكر اسمه في الخطبة، ويلقب بالمهدي أمير المؤمنين في جميع البلاد، فلما كان بعد صلاة الجمعة جلس رجل يعرف بالشريف ومعه الدعاة، وأحضروا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم، وقتل من لم يوافق)(1 )
هكذا بدأ انتشار التشيع في المغرب، لكن وبعد مجيئ المعز لدين الله الفاطمي، وبعد صراعات مريرة بين أهل السنة وهؤلاء الشيعة بدأ الخليفة الفاطمي يحس بأن تواجدهم في المغرب لم يحقق لهم أية نتيجة.
قال في رسالة لأحد المقربين منه: (وقد ابتلانا الله برعي الحمير الجهال، فإنا لم نزل نتلطف في هدايتهم، ومسايرة أحوالهم، إلى أن يختم الله لنا بالحسنى، والخروج من بين أظهرهم على أحمد حال)( 2).
وقال له خليفته الذي أراد أن يستخلفه على أرض المغرب حين قرر الانتقال إلى مصر: (يا مولانا: أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب، فكيف يصفوا لي وأنا صنهاجي بربري؟ قتلتني يا مولاي بلا سيف ولا رمح)(3 ).
فبدأ المعز ينشر مذهبه في مصر بعد أن يئس أشد اليأس من أن يستقر له المغرب، أو أن يتحول المغاربة عن مذهبهم.
وقد كانت شروط خليفة المعز على المغرب، شروطا قاسية، وافق عليها المعز وهو يدرك أبعادها، فقد لامه أحد أعمامه على الموافقة على تلك الشروط فقال له: (يا عمنا: كم بين قول يوسف وقول جعفر؟ واعلم يا عم، أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداءً، هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف، فإذا تطاولت المدة سينفرد بالأمر، ولكن هذا أولى وأحسن وأجود عند ذوي العقل، وهو نهاية ما يفعله من يترك دياره)( 4).
يقول الدكتور محمد الحاجري: (لقد كان المعز يستشف ببصيرته ما يؤول إليه أمر العبيديين في أفريقية والمغرب عامة، ولعل أقصى ما كان يرجوه وهو يفارق إفريقية، أن تظل تابعة له معترفة به، أما الصبغة الشيعية، فقد علم أن لا رجاء له فيها)(5 ).
لقد حاول التشيع فرض نفسه على المغرب بقوة السلطان وسلطة القوة، وقد أثارت هذه القوة ردة فعل موازية لها في القوة أو أشد منها، وفجأة تلاشت قوة الدفع لدى المذهب الشيعي لتندفع تلك القوة التي أثارتها ردة الفعل وتكتسح المجال، وتنفجر بعد الضغط الذي كبتها طيلة تلك السنين.
وليس من الصعب الآن أن نتصور الوضع الذي فرضته المرحلة، بالنسبة للذين بقوا على هذا المذهب، بعد ذهاب الدولة التي كانت تساندهم وتدعمهم.
لقد آثر كثير منهم المغادرة، وكان من قبائل كتامة من رافق الدولة في خروجها من المغرب، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للمقربين من الخليفة، أن يصطحبهم في جهاده الجديد، ويكونوا في طلائع جيشه، والمقدمين من قواده.
بينما بقيت قلة قليلة من قبيلة كتامة ممن ناصر الدعوة وتبناها، وسكنوا في حي خاص بهم من أحياء القيروان يسمى “حي المقلي” والذي كان خاصا بالشيعة، وقد رأينا بعض ملامح الإذاية التي بدأت تلحقهم أيام المعز.
إلى أن جاء المعز بن باديس الخليفة الرابع من عائلة زيري، وأعلن رسميا تبنيه للمذهب المالكي، وإلغاءه لكل المذاهب التي كانت في المغرب، كمذهب الخوارج، ومذهب التشيع، وأعلن مبايعته لبني العباس.( 6)
يقول الدكتور الحاجري: (ولم يكن هذا التحول الذي حدث في سياسة الدولة الزيرية، وهذه القطيعة بين القيروان والقاهرة، إلا مسايرة من السلطة الحاكمة لطبقات الشعب، ورعاية للاتجاه السائد فيه، واستجابة لما كان لا يزال يسري في نوازع ذلك الشعب، فقهائه وعامته، على درجات متفاوتة، من إنكار لذلك الذي جاءت به هذه الدولة الجديدة)(7 ).
عند ذلك برز الحقد الذي احتقن في نفوس المغاربة منذ سنين، فبعد أن رحلت الدولة التي كانت تدعم هذا المذهب، جاء الوقت الآن ليتعرى الشيعة من أي دعم سياسي يحميهم، بعد أن تنكر لهم المعز بن باديس، فأقدم المغاربة على قتل الشيعة، وارتكاب مجزرة بشعة في حقهم، ليتم بذلك القضاء على التواجد الشيعي في المنطقة، يقول ابن الأثير:
(في هذه السنة –أي سنة 407هـ- في المحرم قتلت الشيعة بجميع بلاد أفريقية. وكان سبب ذلك، أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان، والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة فسأل عنهم، فقيل هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر، فقال رضي الله عن أبي بكر وعمر، فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلي من القيروان، وهي تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعا في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم. وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله، فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع أفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به فحصرهم العامة، وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم)(8 ).
وفي الحقيقة نحن ننكر هذا العنف أشد الإنكار، إلا أننا في إطار البحث التاريخي نجد أن هذا العنف قد تولد عن سنوات من الاضطهاد والقمع والمعاناة، وما أن أتيحت الفرصة، حتى كال السنة للشيعة بنفس المكيال الذي كانوا يكيلون لهم منه، وسقوهم من نفس الكأس التي لطالما سقوهم منها.
وكانت هذه هي الضربة القاضية التي قصمت المذهب، ومسحت أي وجود له بعد ذلك اليوم.
ولا بد أن يكون هناك بقايا قد آثرت إخفاء عقيدتها، ولا بد أيضا أن تموت عقيدتهم المخفية معهم، وتدفن معهم في قبورهم، وبهذا لم يبق أي أثر للشيعة في بلاد المغرب.
هكذا واجه المغرب القديم الحملة الشيعية التي كادت أن تقضي على مكتسباته الدينية، فكيف واجه المغرب الحديث هذه الحملة الشيعية الجديدة، التي حملتها رياح الثورة الخمينية؟

يتبع..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  اتعاظ الحنفاء 1-17

[2]المجالس والمسايرات للقاضي النعمان، ص396 نقلا عن مرحلة التشيع في المغرب العربي ص138

[3]اتعاظ الحنفا ص 143

[4] اتعاظ الحنفا ص143

[5] مرحلة التشيع في المغرب العربي ص138

[6] انظر المؤنس ص 82 ط تونس 1387

[7] مرحلة التشيع في المغرب العربي ص141

[8]الكامل في التاريخ – ابن الأثير  ج 9 – ص 294 – 295

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *