الدين كله سياسة..

الصلاح والفساد نقيضان ضدان لا يلتقيان، وإذا كانت السياسة -كما تدل على ذلك لغة العرب- تعني الإصلاح والاستصلاح؛ فإن ذلك لا يتم ولا يكتمل إلا بإزالة أو دفع نقيضه أو ما يضاده، ومن هنا يتبين أن السياسة الكاملة لا تتحقق إلا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد ودرئها وتعطيلها. 

والسياسة المطلقة هي التي تقوم بذلك في الأمور الدنيوية والأخروية، لجميع الخليقة عوامهم وخواصهم، فيما يظهر من أفعالهم وأقوالهم، وفيما يبطنون من ذلك، وهذه السياسة المطلقة، أو السياسة الكاملة الشاملة لا يقوم بها إلا رسول يوحى إليه من رب السموات والأرضين، ويتبعه في ذلك خلفاؤه الذين يقتدون بسنته. وأما جهود البشر المبتوتة عن الوحي، فلا تتعدى -مهما بلغوا من المعرفة والتقدم- تدبير أمور المعاش، وإصلاح معاملات الناس فيما بينهم في ظواهرهم على حسب ما يظهر لهم من علومهم القاصرة.
قال التهانوي في بيان أنواع السياسة: «وفي كليات أبي البقاء ما حاصله: أن السياسة المطلقة هي إصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، على الخاصة والعامة في ظواهرهم وبواطنهم، وهي إنما تكون من الأنبياء، وتسمى مطلقة؛ لأنها في جميع الخلق، وفي جميع الأحوال، أو لأنها مطلقة أي كاملة من غير إفراط ولا تفريط. وأما من السلاطين وأمرائهم فإنما تكون على كل منهم في ظواهرهم، ولا تكون إلا منجية في العاجل؛ لأنها عبارة عن إصلاح معاملة الناس فيما بينهم، ونظمهم في أمور معاشهم، وتسمى سياسة مدنية، وأما من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حقاً على الخاصة في بواطنهم لا غير، أي لا تكون على العامة؛ لأن إصلاحهم مبني على الشوكة الظاهرة، والسلطنة القاهرة، وأيضاً لا تكون على الخاصة في ظواهرهم؛ لأنها منوطة بالجبر والقهر، وتسمى سياسة نفسية» (كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي 664 ـ 665) .
ومن هذا النقل يتبين أن السياسة تقسم بحسب مجالها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: سياسة نفسية: ومجالها باطن الإنسان (أي قلبه) وعملها إصلاح الباطن وتهذيب النفوس، ودرء المفاسد والغوائل عن القلوب، وهذه يقوم بها العلماء الربانيون الذين يَُعنَوْن بإصلاح القلوب وتربية النفوس وتهذيبها.
النوع الثاني: سياسة مدنية: ومجالها ظاهر الناس فقط وما يتعلق بحياتهم، وعملها إصلاح ظواهرهم بتدبير أمور معاشهم، وإصلاح معاملاتهم، وإقامة شؤون اجتماعهم وعمرانهم، وهذه يقوم بها الولاة والأمراء والسلاطين والملوك والرؤساء؛ فإذا كانت هذه السياسة «مفروضة من العقلاء، وأكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية» (ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص 170).
النوع الثالث: سياسة مطلقة أو كاملة، ومجالها باطن الإنسان وظاهره، وهي تشمل النوعين السابقين، وهذه التي يقوم بها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ثم من يخلفهم ويمشي في ذلك على طريقتهم، وهم الخلفاء الراشدون في كل عصر ومصر.
ومن الجدير بالذكر أن جميع أنواع السياسة المقيدة بالشرع تدخل تحت مسمى السياسة الشرعية، وإن كانت السياسات الثابتة بالنص القرآني تسمى سياسة إلهية، والثابتة بالسنة تسمى سياسة نبوية، وذلك تمييزاً لها وبياناً لمصدرها المباشر.
ومن البين أن السياسة التي يكون مصدرها المباشر هو الاجتهاد المبني على الكتاب والسنة هي أيضاً من السياسة الشرعية. ونستطيع هنا أن نميز مصادر السياسة الشرعية أو الأدلة العامة لها وهي: الكتاب، السنة، وسياسة الخلفاء الراشدين، وأخيراً الاجتهاد الصحيح المبني على ما تقدم.
الدين والسياسة:
يتبين مما تقدم أن الدين كله سياسة لإصلاح الحياة الدنيا ودرء المفاسد عنها، وكذلك لإصلاح الآخرة ودرء المفاسد عنها. واللغة العربية لغة القرآن تصدِّق ذلك؛ فقد جاء في كتاب الغريب: «الدين: المُلك والسلطان، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْـمَلِكِ} [يوسف: 76]، أي في سلطانه وملكه» (الخطابي: غريب الحديث 1/551-552)، وفي لسان العرب: «دِنْته أَدِينُه دَيْناً: سُسْته، ودِنته: مَلَكْتُه، ودَيَّنْتُه القومَ: ولَّيته سياستهم»، وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص:188): الشريعة سياسة إلهية».
وقد كتب ابن تيمية رحمه الله رسالة في السياسة الشرعية، قال في أولها: «فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية». وبيَّن رحمه الله أنها «مبنية على آية الأمراء في كتاب الله»، فسماها: سياسة إلهية، وهو ما يكون دليلاً واضحاً على أن السياسة التي يُعتد بها شرعاً هي السياسة التابعة للشريعة، وأما السياسة المخالفة للشرع، وإن بدا لبعضهم أنها محققة لبعض المصالح، فهي ليست بسياسة على الحقيقة، وإن سُميت بذلك؛ فإن العبرة بالحقائق وليس بالأسماء؛ فإذا كان الإسم يخالف الحقيقة، فلا قيمة له ولا عبرة به. (انظر: قواعد في فقه السياسة الشرعية؛ محمد بن شاكر الشريف).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *