فرنسا وافتعال “مذابح الأرمن”!! “الأحفاد لا يمكنهم أن يعتذروا عما ارتكبه الآباء” (ن.ساركوزي) نبيل غزال

يرجع تاريخ التدخل الفرنسي في الشأن التركي وافتعال قضية الأرمن إلى ما قبل سنة 1893م؛ حيث اقترن تدخل الجمهورية الفرنسية في الشأن العثماني باسم “بيير كيار”؛ وحتى يعرف القارئ الكريم أكثر عن هذه الشخصية والدور الخطير الذي كانت تضطلع به؛ نفسح المجال للسلطان الراحل عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى ليخبرنا من يكون بيير كيار هذا.
جاء في مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني:
“أحضر لي مرافقي أول أمس كتابا صغيرا باللغة الفرنسية عنوانه: “إلى ذكرى بيير كيار؛ وهو كتاب يحتوي على هجاء ومديح؛ والممدوح هو (بيير كيار) والمهجو هو (أنا).
أعرف بيير كيار اسما، فقبل ثلاث وعشرين سنة قدم إلى إسطنبول وكان مدرس الفساد في المدارس الأرمنية؛ ثم ترك إسطنبول بعد أن قضى فيها ثلاث أو أربع سنوات.
شيء غريب؛ كان بيير كيار هو الذي أطلق عليَّ لقب (الحيوان الأحمر)، كنت أعرف الكلمة ولكني كنت أجهل قائلها، وبقدر ما أحمل من أوسمة أجنبية بقدر ما سميت بأسماء أطلقت عليَّ من هذه البلاد الأجنبية.
..لقد عرفت من هذا الكتاب سبب تسميتي بالحيوان الأحمر؛ الذي عرفني بهذا: خطب حماسية لخطيبين أرمنيين اسمهما: (أهارونيان) و(جوبانيان).
..يقول (أهارونيان) أفندي ومسيو (جوبانيان) معا: إن بيير كيار جاء إلى اسطنبول عام 1893م معلما في المدارس الأرمنية، ألقى على الشباب الأرمني دروسا في الفلسفة وتاريخ والأدب؛ لكنه أحرز نجاحا كبيرا في تلقين الثورية والإيمان بها، وأصبح من الواجبات المباركة للجماعة الأرمنية أن تذكر بالامتنان والشكر اسم بيير كيار في كل مسألة تطفئ كيان المجتمع الأرمني وتريق دمه، مثل (مسألة صاسون) و(مسألة زيتون) و(مسألة البنك).
اشتبه رجال الأمن فترة في هذا الفرنسي الذي يعمل لحساب الأرمن؛ ومع أنهم قبضوا عليه إلا أني أخليت سبيله بعد تدخل السفارة الفرنسية.. خرج بيير كيار من السجن وترك إسطنبول..
هذا الفدائي الذي ثار باسم الشعب الأرمني المظلوم!! ..ترك راتبه في إسطنبول -وهو على حال ليس كثيرا- واختار العودة إلى فرنسا؛ وأشاع الأخبار عن مذابح الأرمن.
ذهب بيير كيار إلى أوربا وخاطب دنيا الإنسانية التي لا تبالي بشيء قط!! خاطبها وحدثها عن حوادث الأرمن التي تمزق القلوب!! ولم يكتف بهذا؛ ولكنه لكي يستطيع أن يطمئن الرأي العام الأوربي على محبته للأرمن وبدافع من عشقه هذا عمل مخابرا (مراسلا صحفيا) لـ”إيللو ستراسيون”، واشترك كفدائي في الجيش اليوناني وبالتالي حارب الأتراك و(العثمانيين).
ويسأل الإنسان الذين أرادوا تحقيره بلقب (الحيوان الأحمر) [وهو أنا] كل كائن من بني الإنسان قائلا:
لو قام عبيد الله أفندي الأزميري وذهب إلى الهند فرأى أن المسلمين -وهم هناك ليسوا أقلية وليسوا أيضا بالأكثرية بل يشكلون الغالبية العمومية- لا يملكون من الحقوق السياسية مثلما تملكها الأقلية الأرمنية عندنا، ورَقَّ لحال هؤلاء المسلمين وحزن من أجلهم وقال لهؤلاء المساكين: (إن لكم حقوقا كألاَّ تكونوا محرومين ولا تظلموا، وألا يقع أي ظلم عليكم، وألا تكونوا مقهورين)، لو قال هذا وأصر عليه فهل يقدم الحاكم العام للهند.. الشكر لعمامة فقيهنا التركي؟
..لم تشكل أول جمعية ثورية أرمنية في الأناضول بل في باريس، وهذا يوضح كل شيء، يعني أن رأس الفتنة كان في الخارج.
..كان الفرنسيون يحكمون الكاثوليك ويساند الروس الأرثوذكس، كنت أحيانا أقف مع هؤلاء وأحيانا مع أولئك، ولكني لم أنس قط أن كلا الفريقين من الرعايا العثمانيين، وإنما جهدت أن أحول بينهم وبين تحركهم”.
أما “الصحف الأوربية -فقد- كانت تضع بصماتها على هذه المسألة أيضا.. كانت تكتب عنها بشكل دائم، وتهاجمني وتلقبني بالسلطان الأحمر، وكانت تحرض الرأي العام العالمي ضدي، وهكذا أصبحت المسألة الأرمنية من المسائل التي تشغل الرأي العام العالمي..”اهـ.
هذا ما حكاه لنا السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته حول الدور الفرنسي في اصطناع ما يسمى بـ”إبادة الأرمن”، علما أن هذا الافتراء وهذا الكيد ليس قاصرا على فرنسا وحدها؛ بل يشمل أيضا كلا من روسيا وإنجلترا وأمريكا.
وقد حركت فرنسا مجددا موضوع الأرمن؛ حيث صادق أحفاد (بيير كيار) مؤخرا على مشروع قانون يجرّم “إنكار إبادة الأرمن” خلال الحرب العالمية الأولى؛ ويفرض عقوبة حبسية مدتها سنة؛ أو دفع غرامة قدرها 45 ألف يورو لكل من ينكر هذه “الجريمة”!!
وبذلك أغلقت فرنسا الباب حتى على الدارسين والباحثين في مجال التاريخ للتحقق من المعطيات التي تقدمها الرواية الفرنسية، بفرض قراءة سياسية واحدة لأحداث تاريخية، وتدخل سافر للمشرع في مجال فكري محض، وتعميم طرح واحد ووحيد بقوة القانون؛ في بلد يعتبره العلمانيون “بلد الحريات” بامتياز!!
وقد أرجع عدد من الخبراء والمحللين موفق فرنسا -الرافضة دوما لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي- إلى رغبتها في تكبيل تركيا وإشغالها؛ وعرقلة نموها الاقتصادي؛ والنيل من سمعتها الآخذة يوما بعد آخر في التوهج والإشراق؛ وكذا ضمان حزب ساركوزي لأصوات الأرمن في جنوب فرنسا في الانخابات القادمة؛ والبالغ عددها أكثر من نصف المليون.
وقد كان رد تركيا إزاء التصرف الفرنسي حاسما؛ حيث سحبت تركيا فورا سفيرها في باريس؛ وأعلنت تجميد التعاون السياسي والعسكري مع فرنسا؛ رغم أن البلدين ينتميان معا إلى حلف شمال الأطلسي.
واتهم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي باللعب على مشاعر كراهية المسلم والتركي؛ وارتكاب فرنسا لجرائم إبادة خلال فترة وجودها في الجزائر (1830-1962).
وقال أردوغان في محاضرة ألقاها في إسطنبول في إشارة إلى أعمال العنف التي ارتكبت خلال حرب تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي: “إن نسبة الجزائريين الذين ذبحهم الفرنسيون تقدر بنحو 15 بالمائة اعتبارا من 1945”.
وللتذكير؛ فقد رفض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارته للجزائر سنة 2007 -وكان وقتها وزيرًا للداخلية- الاعتذار عما ارتكبته بلاده في الجزائر، وقال: إن “الأحفاد لا يمكنهم أن يعتذروا عما ارتكبه الآباء“!!
أما العثمانيون الأتراك فيجب عليهم أن يعترفوا بمذبحة لم يرتكبوها؛ ويتحملوا التبعات المادية والمعنوية لما لم يقترفه أجدادهم!!
وتابع أردوجان حديثه بقوله: “إذا كان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لم يعلم بحصول إبادة فليسأل والده بال ساركوزي.. الذي خدم في القوات الأجنبية في الجزائر خلال الأربعينيات”.
وأضاف في إشارة إلى الجد المجري الأصل للرئيس الفرنسي: “عائلة جد ساركوزي كانت من العائلات اليهودية التي قدمت لها الدولة العثمانية الحماية والرعاية، بعد هربها من مجازر اليهود في إسبانيا، إثر سقوط الحكم الإسلامي فيها”اهـ.
لقد مضى على مشكلة الأرمن قرابة القرن؛ ويبدو أن الفتيل الذي زرعه الفرنسي بيير كيار في جسد الدولة العثمانية يستحيل إشعاله اليوم؛ مهما حاولت فرنسا ذلك؛ لأن تركيا اليوم ليست هي تركيا الأمس؛ بل إن عالم اليوم ليس هو عالم الأمس..فكثير من الأمور والمعطيات المأثرة قد تغيرت.
فهل تدرك فرنسا ذلك؛ أم أن سياسييها قد أعماهم بريق الكراسي والمناصب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *