يعمل بعض المنتسبين إلى الثقافة والفكر، ويتبعهم على ذلك بعض المنابر الإعلامية التي تتبنى الطرح العلماني، على الترويج لشبهة متآكلة مفادها “أن العرب استنزفوا مواردهم الاقتصادية في النفقات العسكرية خلال حروبهم الخاسرة ضد الكيان الصهيوني، ولو أنهم استخدموا هذه الطاقات في بناء مجتمعاتهم، لوفروا للشعوب الرفاه والاستقرار والأمن، ودعم المنظمات الدولية السياسية الاقتصادية!”.
وهذا الكلام المتهافت يقال لاستثارة غرائز الجشع والأنانية التي تُجبَل عليها النفس الإنسانية عند ضعف الإيمان، حيث يلهج الأفراد والمجتمعات بعد الفتنة بهذا الدجل، بشعار من وحي الشيطان يقول: (أنا.. ومن بعدي الطوفان)!
ومع خسة هذا الشعار ودناءته؛ فإن مردديه (الواقعيين!) يتعامون عن عدم واقعيتهم؛ فمصر -مثلاً- التي تخلت عن نهج المواجهة وتكاليف (المجهود الحربي) منذ ربع قرن؛ لم يتحسن أداؤها الاقتصادي ولا مستواها المعيشي، بل الجميع يعرف أن الشريحة الأوسع من الشعب المصري، وهي الطبقة المتوسطة اقتصادياً، كادت تختفي ليبرز في الصورة شريحتان هما: الطبقة الفقيرة المعدمة، والطبقة الغنية المتخمة، وهو ما يعكس واقع الأزمات الاقتصادية المتتابعة التي أوصلت معدل البطالة إلى 10.5% وإجمالي الديون الخارجية إلى حوالي 30 مليار دولار، والديون الداخلية إلى نحو 300 مليار جنيه، ونسبة الفقر إلى 55%، بحسب التقديرات “الدولية” لحد الفقر، و25% بحسب التقديرات المصرية بعد أن كان مبرمو اتفاقية كامب ديفيد قد وعدوا الشعب بالرفاه والرخاء طبقاً لمشروع (مارشال) الذي وعدت به أمريكا.
وظروف كل من الأردن وفلسطين في ظل اتفاقات السلام، ليست أفضل من هذا؛ فالشعب الفلسطيني في ظل (أوسلو) لم يزدد إلا معاناة وعوزاً، بالرغم من أن الوعود كانت تأتيه بتحويل أراضي السلطة إلى سويسرا الشرق!
ولقناعة الأمريكيين بأن سياسات التطبيع الاقتصادي -في ظل الجشع الصهيوني- ستؤدي إلى نتائج محرجة، فقد تعهدوا مبكراً بتقديم مساعدات مالية، هي في حقيقتها مقايضات سياسية، لتجميل قبح المقايضة من ناحية، ولتطويل عمر الصفقة من جهة أخرى، حيث إن قبح المقايضة مخيف، وثمنها فادح، فعلى المصريين في مقابل تقاضي 2 مليار دولار سنوياً، أن يظلوا متمسكين بالتخلي عن فلسطين وما قد يلحق بها، فلا يمدون يداً للمساعدة إلا على المستوى الدبلوماسي والسياسي و.. الأمني!
إضافة إلى أن ما يأخذه المصريون باليد اليمنى، يسرقه الصهاينة باليد اليسرى، على شكل تسهيلات وضمانات واحتكارات اقتصادية، لعل أخطرها وأقذرها احتكار بترول سيناء؛ حيث يحتكر الصهاينة بمقتضى كامب ديفيد 80% من وارداته ولمدة 50 سنة منها، وبثلث السعر العالمي، وهو المادة التي لا يمكن بدونها تشغيل الطائرات ولا الدبابات ولا الغواصات، بل ولا المحطات النووية الصهيونية. (انظر كتاب: لا للتطبيع د. عبد الله النفيسي).
واليوم وتحت ضغط التطبيع لا زالت الحكومة المصرية تمارس الحصار المشدد على معبر قطاع غزة، وتمنع وصول العديد من أنواع الدواء والغذاء إلى المحاصرين في غزة، بدعوى أنه يستغل دخولها إلى القطاع ليتم تحويلها إلى أسلحة، وتمضي الحكومة المصرية قدما في بناء جدار فولاذي -تحت إشراف أميركي فرنسي صهيوني- طوله 10 كلم يمتد على طول محور صلاح الدين، لتطبق الحصار تحت الأرض أيضا وتمنع مرور الأدوية والغذاء إلى سكان غزة المستضعفين عبر شبكة الأنفاق، وهي بذلك تقدم خدمة جليلة للصهاينة وتحقق لهم ما عجزوا عن تحقيقه طيلة أيام العدوان.
إن الصهاينة حين يرتؤون التعامل والتطبيع مع دولة عربية ما، فإنهم يتعاملون معها في إطار ما يخدم المشروع الصهيوني التوسعي عملا بوصية “هركابي” الأب الروحي لرابين حين قال: “لابد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب؛ لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية”.
إلا أن التمسك بالدين وتطبيق شريعته ينفي عنهم هذه الأخلاق والسلوكيات لهذا نجد العالم الغربي-الصهيوني يحاصر الدول الإسلامية والعربية ويضغط عليها حتى تتبنى العلمانية نظاما للحكم وتحارب كل من يدعو إلى الرجوع إلى الإسلام تشريعا وثقافة وسلوكا.