لقد تعددت العوامل التي كانت وراء نشوء الحركة الوطنية بشكل منظم وهادف، وبرنامج واضح، نظرا لوعي قياداتها بالمسؤولية الملقاة على عاتقها وفي مقدمتها: إصلاح أحوال العباد والبلاد، ومن بين روافد الحركة الوطنية المغربية: السلفية كما قال “واتربي جون” في كتابه الملكية والنخبة السياسية في المغرب: “ترجع أصول الحركة الوطنية المغربية كمثيلاتها في الشرق الأوسط إلى النهضة الدينية السلفية..”.
وكان من بين رواد هذه الحركة في عهد الاحتلال أبو شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي، وسرعان ما وسعوا دائرة الأنصار وسط الشباب المغربي الذي آمن بالسلفية، وحاول إخراجها من ميدان التنظير إلى ميدان التطبيق بالرغم من الصعوبات التي اعترضت سبيلهم وسط أمة أمية غلب على عقيدتها ما زرعه فيها الطرقيون من ممارسات وطقوس بعيدة عن الدين الإسلامي؛ ولا تمت له بصلة.
فالعلاقة أو الصلة التي تجمع بين الحركة الوطنية والسلفية هي علاقة وطيدة، ذلك أن السلفية هي مرجعية الحركة الوطنية، هدفها هداية الناس وتعبيدهم لرب العالمين وخدمة الأمة بما يصلح شأنها؛ لا لتضليلها عن طريق تكريس الأمر الواقع، وتعجيز الناس وترهيبهم من المستعمر كما فعلت بعض الزوايا وأصحاب الطرق الذين صاروا أدوات لخدمة الاحتلال.
فيصعب جدا فصل السلفية عن الوطنية فهما متكاملان عند أغلب رجال الحركة الوطنية، من حيث الهدف والغاية، خاصة إذا علمنا أن السلفية تلازم كل عمل سياسي بل تمهد له في الغالب: “وإذا بنا في حركة سلفية ووطنية في وقت واحد، حيث سلفية لأنها تريد إقرار الشرع الإسلامي، وتثبيت دعائمه في البلاد، وهي وطنية لأنها تقاوم السيطرة الأجنبية وبرامجها للامتلاك الأبدي لبلادنا..” (علال الفاسي؛ حديث المغرب في المشرق).
إن روافد الحركة الوطنية متعددة؛ في مقدمتها السلفية، والحروب التحريرية التي خاضها المقاومون المغاربة بالجبال، وفتح المدارس، كلها عوامل عجلت بشكل واضح بظهور العمل الوطني ما بين سنة 1925م وسنة 1930م وبشكل منظم ما بين سنوات 1930م-1934م.
فعندما أصدرت سلطات الحماية الظهير البربري في 16 ماي 1930، قامت انتفاضة شعبية تطالب بإلغائه، فكان ذلك الحدث بداية للتنظيم السياسي والعمل الوطني، وتأسست الجرائد مثل المغرب الكبير بباريس 1932 وجريدة عمل الشعب بفاس 1933، تصدران بالفرنسية لأن سلطات الحماية منعت إصدار الجرائد العربية، وبدأ الاحتفال بعيد العرش في 18 نونبر 1933 لتوطيد الاتصال بين السلطان والحركة الوطنية.
وفي 1934 كون قادة الحركة الوطنية أول تنظيم سياسي باسم “كتلة العمل الوطني”، وطالبوا إدارة الحماية بتطبيق الإصلاحات التي نصت عليها معاهدة الحماية، وقدموا برنامجا تحت اسم “مطالب الشعب المغربي” ينص على إحداث حكومة مغربية تساعدها أجهزة منتخبة، وأن تقوم الحماية بدور المساعد والمراقب فقط، وبعد رفض هذه المطالب، قدمت الكتلة مطالب أخرى تحت اسم “المطالب المستعجلة للشعب المغربي”، واحتد الصراع بين قادة الحركة الوطنية والإقامة العامة، التي اعتقلت عددا منهم ومنعت الأحزاب والجرائد.
وفي 1937 انقسمت كتلة العمل الوطني وتأسست الحركة القومية برئاسة محمد بن الحسن الوزاني، والحركة الوطنية لتحقيق الإصلاحات بزعامة علال الفاسي، والتي سميت فيما بعد بالحزب الوطني.
وفي منطقة النفوذ الإسباني أسس عبد الخالق الطريس حزب الإصلاح الوطني، وأسس المكي الناصري حزب الوحدة المغربية، واقتصرت برامج هذه التنظيمات السياسية فيما بين الحربين على المطالبة بالإصلاحات والمعارضة السياسية للاحتلال.
وقد استفادت الحركة الوطنية من الظروف الدولية الجديدة: كهزيمة فرنسا أمام النازية ونزول قوات الحلفاء بالمغرب في 1942 ومؤتمر الدار البيضاء “مؤتمر أنفا” 1943 بين محمد الخامس وروزفلت وتشرشيل.
وبرزت المطالبة بالاستقلال في تقديم “وثيقة المطالبة بالاستقلال” في 11 يناير 1944 من طرف قادة الحركة الوطنية إلى الإقامة العامة، أثار هذا الحدث الحماس الوطني، فقامت سلطات الحماية باضطهاد السكان واعتقال بعض زعماء الأحزاب الوطنية، التي اتخذت أسماء جديدة مثل الحزب الوطني الذي أصبح يحمل اسم حزب الاستقلال منذ 1944، وحزب الشورى والاستقلال الذي أسسه في 1946 أعضاء الحركة القومية.
كما ناضل العمال المغاربة في إطار “الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب”، وقاموا بعدة إضرابات أشهرها إضراب عمال الفوسفاط بمناجم خريبكة سنة 1948.
وأسس محمد بن عبد الكريم الخطابي “لجنة تحرير المغرب العربي” في مصر بتنسيق مع قادة الحركات الوطنية بالمغرب العربي.
وتجلى نضال السلطان محمد الخامس الذي يمثل القيادة العليا للحركة الوطنية في مطالبته الحكومة الفرنسية بوضع حد لنظام الحماية، خلال رحلته إلى فرنسا سنة 1945، وفي رحلته إلى طنجة سنة 1947، حيث أكد في خطابه على وحدة المغرب الترابية تحت سلطة ملكه الشرعية، وأن مستقبل المغرب مرتبط بالإسلام والجامعة العربية التي تأسست في 1945، وفي سنة 1950 قدم السلطان مذكرة لفرنسا تهدف إلى تجاوز مشكلة الإصلاحات لتحقيق الاستقلال.
وبعد فشل الإقامة العامة في فك الارتباط الحاصل بين السلطان والتنظيمات السياسية، استغلت في سنة 1952 فرصة قيام مظاهرات بالمدن المغربية احتجاجا على اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، لتقوم باعتقال الزعماء السياسيين ومنع الأحزاب والصحف، وأطلقت النار على المتظاهرين، حيث قتل في الدار البيضاء وحدها حوالي 16 ألف مغربي.
وعملت فرنسا بمساعدة القواد الكبار وزعماء الطرق الدينية “الكلاوي وعبد الحي الكتاني” على عزل السلطان محمد بن يوسف وتعيين أحد أفراد أسرته محمد بن عرفة، وفي 20 غشت 1953 ليلة عيد الأضحى، تم نفي محمد الخامس وأسرته إلى جزيرة كورسيكا ثم إلى جزيرة مدغشقر، ولم يعترف المغاربة بالسلطان الجديد، وبدأت المرحلة الثانية من المقاومة المسلحة السرية، وتشكلت النواة الأولى لجيش التحرير، واستهدف المقاومون اغتيال ابن عرفة مرتين، كما استهدفوا اغتيال الباشا الكلاوي، إضافة إلى تخريب المنشآت الاستعمارية.
وحصل المغرب على تأييد الجامعة العربية وحركة دول عدم الانحياز، لرفع قضية المغرب إلى الأمم المتحدة، مما دفع السلطات الفرنسية إلى التفاوض مع السلطان وقادة الحركة الوطنية بمدينة إيكس ليبان. وانتهت المفاوضات بعودة السلطان محمد الخامس إلى المغرب في 1955، وتوقيع اتفاقية الاستقلال في 2 مارس 1956 مع فرنسا، ثم اتفاقية في أبريل مع إسبانيا.
وفي أكتوبر انتهى الوضع الدولي لمدينة طنجة، ولتحقيق الوحدة الترابية استرجع المغرب إقليم طرفاية سنة 1958 ومنطقة سيدي إفني سنة 1969، وإقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب في 1975 عقب تنظيم المسيرة الخضراء، وبقيت سبتة ومليلية والجزر الجعفرية بيد الأسبان إلى يوم الناس هذا.