إشكالية الاجتهاد عند السلفيين الأستاذ عادل بن المحجوب رفوش

 كثيرا ما تتحفنا كتب التاريخ وتراجم الأعلام بحِكم وأمثال هي في الحقيقة عصارة أذهان تعمقت في معارفها، وانتقلت فيما هيأت من شعابها إلى مشارفها..

وأذكر كلمة لأبي سعد السمان المعتزلي المحدث: “من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام” هذه “الحلاوة الإسلامية” التي يريد كثير من الخائضين في الشريعة تعالما، أن يحرموا منها أهلها الذين هم أحق بها..
فتجدهم يتشدقون بادعاء التجديد وزعامة الاجتهاد.. ثم يلومون السلفيين الذين ليس لهم ذنب يؤاخذون به سوى أنهم أبوا الولاء الضيق للأحزاب، والتزموا بأن يكون المنهج السلفي حكما عليهم وعلى البشرية جمعاء ..
يلومونهم بدعوى أنهم ماضويون “يحبسون أنفسهم في عقول واراها التراب”، “ويعيشون الحاضر بالماضي ولا يبنون المستقبل”..
وأن المطلوب هو الانبعاث بنقض التراث، والإسفار بتحريك الأفكار بدل الأسفار.. وكأن السلفيين حجارة صماء وأصنام جامدة “لا يسمعون الدعاء ولا يلبون النداء” “صم بكم عمي” لا بصائر لهم ينفذون بها في قلب الزمن..

السلفيون أقْوَل الناس بالاجتهاد وأقدرهم على التجديد
إن الحقيقة التي يغمطها هؤلاء المناوئون للمنهج السلفي، ويوهمون الناس خلافها حتى يرسموا السلفيين في لوحة “بدوي وبعير” هي أن أقوَل الناس بالاجتهاد وأقدرهم على التجديد، هم حماة المنهج السلفي، ولا أدل على ذلك من أصولهم البينة التي تنادي “بنبذ التقليد” وأن المقلد لا يصنف في درج العلم، لأن العلم في ثباته وابتكاراته بكل وضوح مناف للتقليد الذي هو قبول قول القائل بدون دليل، وهو نوع من الغياب الواقعي والتغييب الفكري، لا يقبله المنهج السلفي من نخبة المجتمع المؤهلة شرعا لأن تبدي الرأي وتعيد فيه بالحجة والبرهان.. ولا يعقل في المنطق أن يخلو المحل من النقيضين فيقوم هذا المنهج على نبذ التقليد ورفض الاجتهاد؟!!
ومن الأصول أيضا التأكيد على “وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة”.. لأن الاجتهاد حين لا يرتكز على مرجعية موحدة تتصف بقداسة النص المتوقف على المعصومية التي تضمن للناظر فيه سلامة المنطلق من الواردات التي قد تظهر التجارب المستقبلية خطأ النظرية وعدم التسليم بمقدماتها..، فهذا الوحي عند الأمة السلفية لا ريب فيه، وجعله نقطة البدء كفيل بأن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بخلاف الاجتهاد الذي ينبني على الظنون المرجوحة أو النظريات المتعقبة التي لم تحبك فصولها ولم يتكفل بضمان العصمة لها أي كائن..
وحينما يكون مبتدأ الاجتهاد من الوحي المعصوم الذي لا تخالطه الأهواء تنزيلا من رب العالمين، فإنه لا شك سينحصر خطأ المجتهد في التنزيل الذي ورد من تحليل اجتهاده، وستبقى نسبة الأصل الذي اعتمده أكبر وأقدر على تفادي الخطأ الوارد في اجتهادات المجتهدين، ومن هنا -والله أعلم- جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأجر في خطأ الاجتهاد على النصف من صوابه، لأن ثنائية العملية الاجتهادية تنشطر بين الوحي وهو الأصل المنطلق منه، والعقل الذي سيستثمر رأس ماله من الوحي لإبداء النتائج والثمرات.. فإذا طابت الثمرات استحق الأجرين معا أجر قوة المستند وسلامة المعتمد وأجر طيب الثمرة وحسن النتائج.. وإذا كانت الأخرى بقي الأجر الواحد ثابتا لأنه بذل الوسع في التنزيل ولم يخالف في التأصيل.. ومن هنا أجمع العلماء على أنه من بنى اجتهاده على خلاف الأصول وأتى بقواعد لا تنتمي إلى الوحي واستند إلى آراء وأهواء ما أنزل الله بها من سلطان كان آثما باتفاق، ولم ينل أي أجر، وكان رأيه من جنس آراء “فرعون” الذي قال: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ” وقالوا في المأثور: “من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ”، فإن الأصل يغني عن الفرع، ولكن الفرع لا يغني عن الأصل.. والرمية من غير الرامي لا تعطي فرحا بإصابة الهدف، مع أن خطأ الرمي لا يبطل الاطمئنان بكفاءة الرامي.. فمن “أحل الربا” أو “حرم التعدد” أو “قال للأنثى مثل حظ الذكر” كان هذا النوع من الإطلاقات من النوع الآثم الذي قصوره وثبوره أبين من أن يرد عليه فضلا عن تسويغه بادعاء فتح باب الاجتهاد..
بين إغلاق باب الاجتهاد وفتحه
وعلى ذكر الفتح، فإن مما لبَّس به المناوئون أن السلفيين يغلقون باب الاجتهاد وهذه الشبهة لا أدري كيف أفندها وأنا أعلم كثيرا من الكتابات التي تلمز السلفيين بنقيضها، وأنهم يزدرون الأئمة ويقولون “هم رجال ونحن رجال”.. مع أن المقولة الأولى قال بها من العلماء -وخصوصا المالكية- جم غفير بل خصوا المغرب من ذلك بالذكر فقال في المراقي:
“والاجتهاد في بلاد المغرب طارت به في الجو عنقا مغرب”
وأما المقولة الثانية فإن “العلمانيين” أشد ذكرا لها وتلبسا بها وخصوصا كبيرهم الذي علمهم الطبخ وأوقد لهم القدر؛ الدكتور حسن حنفي إذ يقول: “فأنا لا أستطيع أن أحمل الشافعي الآن وأجري به وأبعه في الأسواق بالرغم من تقديرنا له لكن هؤلاء رجال ونحن رجال نتعلم منهم ولا نقتدي بهم”. (حوارات في الاجتهاد ص. 110″)
ويقول (ص.135): “وأنا عالم مثل الشافعي والغزالي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة هي فقط الأمة لا تثق بنفسها بما فيه الكفاية..”
والواقع أن السلفيين لا يغلقون باباً فتحه الله وأثاب عليه، ولا يتطاولون على الأئمة والسابقين، وإنما يقولون كما قال أئمة العلم والهدى بأن باب الاجتهاد موصود، وأرضه محرمة أبد الدهر على من لم يتأهل من أهل الذكر العالمين بالكتاب والسنة وأصول الاستنباط، ومن كان من المستنبطين فإن السلفيين يوجهون الأمة حوله في المدلهمات عملا بقوله تعالى: ” وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ”..
وقوله: “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” فمن لم يعلم يسأل ولا يتكلم ويستشكل ولا يتعالم..
والاستشكال دليل على التفهم، ما لم يكن من جنس استشكالات الأطفال التي تدل على عدم الاكتمال، وليس هذا ازدراء بالسائلين لأن السؤال “نصف العلم” ،غير أنهم يزدرون بأنفسهم حينما يتدخلون في النصف الثاني من العلم وهو “الجواب”..
السلفيون وتقديس الأشخاص
ما قلناه آنفا يؤكد أصلا آخر من أصول المنهج السلفي وهو عدم تقديس الأشخاص أوتبرئتهم من الزلل أو اعتقاد أن الحق محصور في ذواتهم، كما قد يَدين بذلك الصوفية والشيعة وكذلك المستغربون الذين فقدوا هويتهم أمام الغرب وذابوا في “أسطورة الثقافة العالمية”..وتطور هذا التقديس من تقديس الآخر إلى تقديس الذات.. وخذ على ذلك مثالا “بحسن حنفي ذاك” فإنه ينتقد السلفيين والعلمانيين معا، وينتقد التراث وينتقد الغرب بل إنه قال: “أنا في رأيي نحن ألهنا (محمد) أكثر مما يجب” (120 حوارات)..
وفي خضم خطابه المتهافت المضطرب الذي ننتظر أن يكمل فصوله على حد قوله في حدود عشر سنوات أخرى وننتظر ما الذي سيغير في رأيه مما رأى قبلا؟!! يبقى هو المنقذ الوحيد وهو الشيء المقدس الذي بلسان حاله سنستبدل مقدساتنا التي لا تواكبنا؟!!
إن السلفيين يستبدلون تقديس الأشخاص بتقديرهم والاستنارة بعطاءاتهم وقد قال أبو هلال العسكري: “ليتنا أدركنا بعض صوابهم أو كنا ممن يُمَيِّز خطأهم”(التصحيف ص.7) وهذا هو الميزان الحق الذي يضبط الاجتهاد ولا يعطل العقول..
فلا جمود على باطل ولا جحود للحق ولا لأهله.. ولا مستقبل بدون حاضر ولا حاضر بدون ماض مشرق مجيد..
ولذلك يؤكد المنهج السلفي في عملية الاجتهاد “جواز تجزئة الاجتهاد” تأكيدا للحرص على الاستفادة من كل الناظرين وإن قصر نظرهم في بعض الأبواب.. وحتى من منع تجزئته فإن غرضه حماية الاجتهاد من النظر القاصر وليس المنع من نظر القاصر فيما قد يحقق فيه الكمال؟!!
ومثله القول “بمنع الاجتهاد في مورد النص” لأن نظر النص أكمل ولا يأتي وراءه إلا العطل والعاطلون وليس كما ظن [“علي أومليل” في (ما هو الإصلاح بمفهوم إسلامي) ص.23 وعنه “فريد المريني” في “صراع الحداثة والتقليد ص.195”] بأن الاجتهاد السلفي ليس سوى شرح جديد أو تجديد للشرح.. بل إنما هو توقف حيث لا يجدي السير بل يفضي إلى حوادث مهلكة؟!!
وكذلك القول بعدم الإنكار في مسائل الاجتهاد حتى يبقى هذا المشرع متاحا لكل الواردين، ولا يمارس على أهله فيه إرهاب المصادرة والإنكار..
والمقصود أن أصول المنهج السلفي وتاريخ علمائه بَيِّن في دحض الافتراء عليه بالتقوقع والجمود، وإنما امتحن أكبر أعلامه بسبب الانطلاق بالاجتهاد في وجه الجامدين، والصدع بالدليل في آذان الصم المقلدين؛ وسيرة ابن تيمية -مثلا- مليئة بالإنجازات وفتاواه ظاهرة في الاستقلالية المتشبعة بشهادة الدليل.. ومؤلفات المعاصرين السلفيين في النوازل والأحداث المستجدة أكثر من غيرهم وأبدع؛ كالعلامة الدكتور بكر أبو زيد رحمه الله في “فقه النوازل” وكأستاذنا “محمد الجيزاني” في كتابه “فقه النوازل” أيضا، وفي فتاوى العلامة المذكوري جمل من ذلك.. ناهيك عن الهيئات والمجمعات الكبرى التي للسلفيين فيها الحضور الأبرز مما يؤكد قيامهم الجدي على الاجتهاد بدون قبض ولا بسط، وبالتوسط لا بالتسلط وبالانضباط لا بالتسيب.. وبذلك يبقى الاجتهاد كما يرسمه المنهاج السلفي أمانة في ذمة الأمة بين مسوغات الانقطاع وضوابط الاستمرار…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *