ظهر اليوم اتجاه جديد يمكن وصفه بالاتجاه العشوائي، وهو اتجاه ضحل من الناحية المعرفية ولا ينطلق من قناعات راسخة ولكن من خدمة أجندة معينة، ويمكن وصف أتباعه بأنهم “جوقة المغفلين”.. |
غربلة التراث أو إعادة قراءة التراث، أو إعادة النظر في التراث، مسميات لموضوع قديم جديد، يطل برأسه بين الفينة والأخرى، بصفتكم مهتما ومتابعا للموضوع، هل لكم أن تحدثونا عن الحقب والتحولات وحتى المدارس إن وجدت، لهذه النزعة القديمة الجديدة؟
أخذ العديد من الباحثين العرب هذه المقولات وأعادوا قراءتها بأسلوبهم الخاص، ولذلك يمكن القول بأن الكثير من الأعمال الفكرية حول التراث التي ألفها عرب معاصرون تنطبق عليها القولة المعروفة “بضاعتنا ردت إلينا”، فهي بضاعة المستشرقين ردت إليهم. |
قضية التراث في الفكر العربي المعاصر قضية معقدة ومتشابكة، والكلام فيها يطول كثيرا إذا أردنا إعطاء نظرة مجملة فقط عن التيارات والمدارس والقضايا التي تم طرقها خلال العقود الماضية، خصوصا منذ الستينات من القرن الماضي.
يجب القول بأن مسألة إعادة قراءة التراث أو “غربلة التراث” ظهرت منذ وقت مبكر. ففي ظل الإمبراطورية العثمانية وحالة الضعف التي ألمت بها وتكالب القوى الاستعمارية من أجل تفكيك المنطقة العربية وفصل العرب عن باقي المسلمين ورفع شعار الأمة العربية، في هذا الوقت ظهر رواد الإصلاح الإسلامي أمثال الأفغاني وعبده والكواكبي ورشيد رضا وغيرهم ممن أراد فتح أضابير التراث الإسلامي، الديني وغير الديني، من أجل تجديد النهضة الإسلامية وبناء الديمقراطية وتجديد الخلافة على أسس قوية، وكان المدخل لهذا التجديد في التراث صنفين: مدخل سياسي، ومدخل تعليمي تربوي، وأحيانا نجد ارتباطا بين المدخلين عند الشخص الواحد مثل الكواكبي أو الأفغاني مثلا.
الميزة الرئيسية عند هذا الجيل الأول أنه اعتبر نفسه استمرارا للتاريخ الإسلامي، وللتراث الإسلامي، ولكن التحدي الذي كان مطروحا عليه هو التحدي الغربي المتمثل في الاستعمار والقوة العسكرية والاقتصادية.
يمكن القول بأن هذا الجيل ارتبط بفكرة الأمة في لحظة تاريخية مفصلية، وهي المرحلة ما بين انهيار الخلافة إلى نشأة الدولة الوطنية المستقلة بعد الموجة الاستعمارية.. وبمعنى آخر أراد هذا الجيل إنقاذ مشروع الأمة من الانهيار والحيلولة دون سقوط الشعوب العربية بيد الاستعمار. وقد كان هؤلاء المصلحون يرون أن المشكلة في العالم الإسلامي هي مشكلة سياسية أولا، بسبب الاستبداد وغياب الحرية، ومشكلة فكرية ثانيا، بسبب تخلف التعليم وسيادة الاجترار للكتب الدينية القديمة، وعدم الأخذ بالعلوم الحديثة التي مكنت الغرب من تحقيق نهضته.
لكن هذا المشروع فشل لأسباب كثيرة، من بينها التآمر الغربي على رواد الإصلاح، وخوف الحكام من فقدان سلطتهم، وكذلك خوف العلماء التقليديين الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور في المؤسسات الدينية التقليدية من أن يفقدوا مواقعهم.
ويمكننا الاستدلال هنا بمشروع العلامة محمد بن الحسن الحجوي لإصلاح جامع القرويين ونظام التعليم فيه، كما يروي هو بنفسه في كتابه “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي”، فقد ووجه بخصمين: الخصم الأول هو الاستعمار الفرنسي، والخصم الثاني هم العلماء التقليديون.
لكن في مواجهة هذا الجيل كان هناك جيل جديد يمكن القول بأنه البذرة الأولى للتيار العلماني في العالم العربي، وأعني بالتيار العلماني هنا فك الارتباط ما بين الأمة وأصولها التاريخية والدينية. كان هذا التيار يرى أن الحل ليس في التراث ولكن في تقليد الغرب، والملاحظ أن من كان يمثل هذا التيار هم المسيحيون العرب، مثل شبلي الشميل وفرح أنطون وغيرهما. ويتعرض الباحث الفلسطيني هشام شرابي لهذا التيار بتوسع في كتابه “المثقفون العرب والغرب”، حيث يكشف الخلفيات المسيحية لأنصار هذا التيار.
هناك مقولة شائعة ولكنها خاطئة تماما، انتشرت في الدراسات العربية حول الفكر العربي المعاصر، وروجها الكثيرون أمثال محمد عابد الجابري وحسين مروة وحسن حنفي وغيرهم. هذه المقولة هي أن الجيل الأول من المصلحين -عبده والأفغاني ..إلخ- كان ذا نزعة توفيقية، أي محاولة الجمع بين التراث والغرب. أنا أعتقد أن هذه المقولة غير سليمة ولا تنطبق على هذا الجيل، ولكن تنطبق تحديدا على الجيل الثالث الذي ظهر بعد الستينات.
فقد حاول هذا الجيل التوفيق بين الجيل الأول، أي دعاة الإصلاح من داخل التراث، والجيل الثاني، أي دعاة الإصلاح بتقليد الغرب.
ظهر هذا الجيل الثالث بعد الهزيمة العربية عام 1967. بعد تلك الهزيمة تم اتهام التراث بأنه السبب في التخلف الحاصل في العالم العربي، فأخذ هؤلاء ينبشون في التراث الإسلامي باحثين عما يعتبرونه عناصر التقدم والنهضة.
في هذه المرحلة ظهرت عدة مدارس؛ المدرسة الماركسية التي حاولت أن تبحث في التراث الإسلامي عن التوجهات المادية، القريبة من المدرسة الماركسية، بل بعضهم بحث في التراث عن التوجهات الإلحادية، سيرا وراء الموضة الفكرية في تلك المرحلة.
وهكذا تمت إعادة قراءة أجزاء من التراث الإسلامي قراءة انتقائية، لإيجاد بذور الاشتراكية والصراع الطبقي وحكم البروليتاريا. وهي المرحلة التي قادت إلى التركيز على الجماعات الدينية الانفصالية أو التكفيرية، أمثال الخوارج والقرامطة وحركة الزنج، باعتبارها جماعات ثورية.
والحقيقة التي يجب أن يعرفها القراء هي أن اليسار العربي هو أول من أعطى لحركة الخوارج قيمة فكرية وتاريخية، وشجع بطريقة غير مباشرة على انتشار فكرة التمرد على الدولة ثم تكفيرها، من خلال إبراز تلك الحركة وكأنها حركة كانت تدافع عن الديمقراطية وحق أي شخص في تولي الخلافة دون شرط القرشية، إلى غير ذلك. لقد عمل اليسار على تفكيك فكرة أهل السنة والجماعة من خلال الدفاع عن تلك المقولات.
مقابل هذه المدرسة كانت هناك المدرسة الليبرالية، وهي المدرسة التي بحثت في التراث عن القيم الليبرالية مثل الحرية والتعددية والديمقراطية وغير ذلك.
ويمكننا ملاحظة الأثر الاستشراقي في مختلف تلك التيارات والمدارس التي تعاملت مع التراث. فالمقولات التي انتشرت مثل القول بأن التراث الإسلامي لا يتضمن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة الحديثة والحرية الفردية، وغير ذلك، هي كلها مقولات روجها الاستشراق الأوروبي. وقد أخذ العديد من الباحثين العرب هذه المقولات وأعادوا قراءتها بأسلوبهم الخاص، ولذلك يمكن القول بأن الكثير من الأعمال الفكرية حول التراث التي ألفها عرب معاصرون تنطبق عليها القولة المعروفة “بضاعتنا ردت إلينا”، فهي بضاعة المستشرقين ردت إليهم.
ولتحديد مكان الخلل في التراث الإسلامي، عمد المستشرقون طبعا إلى النبش في القرآن والسنة والسيرة النبوية وتاريخ الإسلام، للبحث عما يعضد أفكارهم ويعززها. وهو المنهج الذي استمر لاحقا عبر أقلام عربية.
وعموما يمكننا تحقيب أربع اتجاهات كبرى في التعامل مع التراث:
ـ الاتجاه الاستشراقي، وهو رغم مساوئه لدى الكثيرين، إلا أنه بشكل عام كان نابعا من إحاطة علمية بالموضوعات التي يتطرق إليها. فإذا أبعدنا الجانب الإيديولوجي، فإن الاستشراق من الناحية العلمية كان عملا متبحرا، ووضع اللبنات الكبرى في التعامل مع التراث الإسلامي.
ـ الاتجاه العلماني العربي: وهو رغم بعض الإيجابيات إلا أنه كان عالة على التراكم الذي خلفه المستشرقون، فأعاد عجن الكثير من مقولاته وإخراجها في ثوب جديد، لكن بتبعية واضحة.
ـ اتجاه جديد ظهر اليوم يمكن وصفه بالاتجاه العشوائي، وهو اتجاه ضحل من الناحية المعرفية ولا ينطلق من قناعات راسخة ولكن من خدمة أجندة معينة، ويمكن وصف أتباعه بأنهم “جوقة المغفلين” الذين يرفعون شعار تجديد التراث لكنهم في العمق يريدون استهدافه من الداخل، وينطلقون في الغالب من الفصل بين المقومات الإيمانية والرسالية في التراث وبين تراكماته التاريخية.
ـ اتجاه إسلامي ينطلق من الأصالة، ومن أن التراث يحتاج فعلا إلى قراءة جديدة، لكنه يربط التراث بالبعد الديني الإيماني، ويرى أن التجديد حلقة في سلسلة طويلة من عمليات الإصلاح والتجديد والاجتهاد التي كانت موجودة في التاريخ الإسلامي، لا قطيعة معها..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* د.إدريس الكنبوري: مفكر وباحث.