من دُرَرِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (الحلقة السادس عشرة) ذ.محمد أبوالفتح

• الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟». قَالُوا: بَلَى! قَالَ: «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِي الْحَالِقَةُ».
أخرجه الإمام أحمد 6/444، وأبو داود 4921، والترمذي 2509، وقَالَ أبو عيسى: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَيُرْوَى عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «هِي الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ». وصححه الألباني في صحيح السنن، وفي صحيح الجامع:2595.

• تأملات في الدُّرة:
في هذا الحديث يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الحرص على الإصلاح بين المسلمين، وإزالة ما بينهم من العداوة والبغضاء، أعظم درجة عند الله تعالى، من نوافل العبادات، من صلاة وصيام وصدقة. وفي المقابل يحذرنا صلى الله عليه وسلم من فساد ذات البين، “أي: التسبب في المخاصمة والمشاجرة بين اثنين، أو قبيلتين بحيث يحصل بينهما فرقة أو فساد” ، وعلل صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (فإنها) أي: الخصلة المذكورة (الحالقة) أي: تحلق الدين، وتستأصله كما يستأصل الموسى الشعر، حتى لا يبقى له أثر .

• وَمَضَاتُ الدُّرة:
من فوائد الحديث:
– استعمال أسلوب التشويق في التعليم (ألا أخبركم…)، مما يثير انتباه المتعلم، ويجعله يُقبل على معلمه إقبال المتعطش المتلهف، فإذا ألقي إليه العلم تلقفه بفؤاده قبل سمعه، ووقع في صدره كما يقع الماء البارد في جوف الظمآن، فيحفظه ولا ينساه. فما أحسنه صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- معلما ومربيا!
– حرص الصحابة رضي الله عنه على أفضل الأعمال وأرفعها لدرجاتهم عند الله، كما يدل على ذلك قولهم: “بلى”؛ وذلك لعلمهم بأن الانشغال عن الفاضل من الأعمال بالمفضول منها نقص في العقل، ورقة في الدين، ونوع من الحرمان.
– الإصلاح بين المسلمين خير من نوافل العبادات، بل هو من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى كما يدل على ذلك قوله تعالى: “لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً” (النساء:114).
– أن الأعمال تتفاضل بحسب ما يترتب عليها من المصالح الخاصة والعامة، فالأعمال المتعدي نفعها إلى الناس أفضل من الأعمال القاصر نفعها على صاحبها، والأعمال التي تترتب عليها مصلحة عامة، أفضل من الأعمال التي تترتب عليها مصلحة خاصة، ولهذا كان الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور” (متفق عليه).
وحين سئل الإمام أحمد: ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة، ويسكت عن الكلام في أهل البدع؟ قال رحمه الله: “إذا هو صام وصلى واعتزل الناس أليس إنما هو لنفسه؟!” قال السائل: بلى! قال: “فإذا تكلم كان له ولغيره، يتكلم أفضل” .
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الموضوع، أمور منها:
* الأول: أن تفضيل الأعمال المتعدية النفع على الأعمال القاصرة من باب تفضيل الجنس على الجنس، ويعني ذلك أنه قد يوجد من آحاد الأعمال القاصرة ما هو أفضل من بعض الأعمال المتعدية، ومن ذلك أن الصلاة -وهي عبادة قاصرة النفع أصالةً- أفضل من الزكاة، وهي متعدية النفع، ولذلك كان الصحابة لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة.
* الثاني: أن الواجبات والفرائض -وإن تفاضلت- يجب الإتيان بها جميعها، ولا يجوز التفريط في بعضها بدعوى أن غيرها أفضل منها.
* الثالث: أن الأعمال المتعدية النفع تتفاضل فيما بينها بحسب ما يحصل بها من النفع، فأفضلها مرتبة أعظمها نفعا؛ ولذلك حين أصاب عمر رضي الله عنها أرضا من غنائم خيبر لم يصب مالا قط أنفس منه؛ استشار فيها النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأشار عليه صلى الله عليه وسلم بالوقف ؛ لأن نفعه أعظم وأدوم.
– أن فساد ذات البين تستأصل الدين من جذوره، وتقتلعه من أصوله حتى لا يبقى له أثر ولا ريح، كما يدل على ذلك قوله تعالى: “وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (الأنفال46)، والخطاب في هذه الآية موجه إلى الصحابة ابتداء، فدل ذلك على أن صحة المعتقد، وسلامة المنهج، لا يحصل بهما رفعة للدين، ولا تمكين لسنة إمام المرسلين، إلا إذا اقترن بهما عدم التنازع، والحفاظ على الأخوة بين المسلمين، وقد جرت سنة الله الكونية: أن يَكُونَ التَّفَرُّقُ والتنازع مَتْبُوعَيْنِ بالفشل الذريع والخسران المُهين، وأن يكون الاتحاد والتطاوع متبوعين بالنصر العزيز والتمكين المبين.
وعلى هذا فلا يمكن لهذا الدين أن تقوم له قائمة، ما لم يتجاوز المسلمون عامة وأهل السنة خاصة ما بينهم من التنازع والاختلاف، وذلك بأمور:
1- التحاكم إلى الكتاب والسنة ولزوم الجماعة: عملا بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً”(النساء59 ).
2- التأدب بأدب الاختلاف فيما يسع فيه الاختلاف تأسيا بالصحب الكرام رضي الله عنهم، وبمن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان.
3- هضم النفس فيما يرجع إلى الخلافات الشخصية، وذلك مراعاة لمصلحة هذا الدين، واحتسابا للأجر عند رب العالمين، فإنه قد أصابنا -معشر المسلمين- من الذلة والمهانة في هذا الزمان ما يكفي لحملنا على تجاوز الخلافات الشخصية التافهة في مقابل ما تنتظره منا أمتنا، بل ما تنتظره منا الأمم كلها، “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ” (آل عمران110).

—————-
1 – فيض القدير (3/163).
2 – ينظر عون المعبود (13/178)، وتحفة الأحوذي (7/178).
3 – الآداب الشرعية لابن مفلح (1/265)؛ بتصرف يسير.
4 – متفق عليه، ولفظ البخاري في “الوصايا”: عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا، فَأَتَى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ، قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا». فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ، فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَلاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *