المصلحة بين التأصيل الشرعي.. والعبث العلماني

إذا كانت المقاصد التي يُنظر فيها أصلاً إلى مراد الشارع، ويُتحرى فيها رضاه سبحانه وتعالى أراد العلمانيون أن يجدوا من خلالها مدخلاً للتنصل من المرجعية القرآنية، فإن المصالح التي يُنظر فيها أصلاً إلى حال الإنسان وما يلائمه وما يصلحه أدعى لأن يبحث فيها هؤلاء الناس عن ذلك المدخل.
إن المشكلة ليست في ضرورة اعتبار المصلحة فالكل متفق على أن المصلحة هي مناط التشريع، ولكن المشكلة أي مصلحة نعني؟ ومتى نعد الشيء مصلحة، ومتى نعده مفسدة؟ ومتى نعده نفعاً، ومتى نعده ضرراً؟ ومتى نعده مصلحة راجحة، ومتى نعده مصلحة مرجوحة، ومتى نعده مصلحة حقيقية معتبرة، ومتى نعده مصلحة وهمية متروكة.
وما هو المعيار الذي يحكم المصالح، لأن ما يكون مصلحة لشخص قد يكون ضرراً لشخص آخر، وما يكون مصلحة لشخص في زمن قد يكون ضرراً له في زمن آخر؟
ثم المصالح منها ما هو ضروري ومنها ما هو تحسيني ومنها ما هو حاجي، وقد تتعارض أو تتداخل وقد يدق الفرق فتختلف التقديرات، فلا بد من وضع هذه الاعتبارات جميعاً في مراعاة المصلحة، حتى يمكن أن نحقق هذه المصلحة. ثم هل النص معيار المصلحة والحاكم عليها؟ أم المصلحة هي معيار النص والحاكمة عليه؟ وهل تتعارض المصلحة مع النص؟ وإذا تعارضت فما الحل؟
زعم الطوفي أن المصلحة يمكن أن تتعارض مع النص في أمور ما سوى العبادات، وفي هذه الحالة يجب الأخذ بالمصلحة لأنها قطعية، وهي المقصودة من سياسة المكلفين2 . ولكن الطوفي “لم يأت ولا بمثال واحد حقيقي يدل على التعارض الذي افترضه بين النص والمصلحة فبقي رأيه مجرد افتراض نظري”2 .
ويضرب الدكتور الريسوني ثلاثة أمثلة لدعوى بعض أصحاب الخطاب العلماني بتعارض النص مع المصلحة ويناقشهما مناقشة رصينة؛ وبالنظر على أهميتها نوردها ملخصة هنا:
المثال الأول: ذهب الرئيس التونسي السابق بورقيبة إلى أن صيام رمضان يسبب تعطيل الأعمال وضعف الإنتاج ودعا العمال سنة 1961م إلى الإفطار حفاظاً على الإنتاج الذي يدخل ضمن الجهاد الأكبر 3.
ثم خرج فيما بعد من يُنظِّر لدعوة الرئيس ويبحث لها عن منافذ مشروعة لكي تتمكن من التسلل إلى ضعاف العقول وضعاف الإيمان؛ فقال عبد المجيد الشرفي بعدم فرضية الصيام وتمحل لذلك بعض الأدلة4.
فهل الصيام حقاً يتعارض مع مصلحة الإنتاج، ومصلحة النهوض الاقتصادي؟
إن الصوم يلغي وجبتين غذائيتين تقعان في وقت العمل هما وجبة الإفطار والغداء، والصوم يوفر على الموظفين وقت هاتين الوجبتين، وهو وقت يمكن الاستفادة منه لصالح العمل والإنتاج، ثم إن الصوم يمنع الموظفين عن التدخين ومعلوم أن التدخين يأخذ من صاحبه دقائق متكررة على مدى اليوم كله قد تستغرق ساعة من ساعات العمل. هذا بالإضافة إلى ما يسببه التدخين عموماً من هدر كبير في القدرات والأوقات في غير رمضان بسبب أضراره المادية والصحية والنفسية؛ فلماذا لا يُنظر إلى هذه الآفات التي يخفف منها شهر الصيام؟! ولماذا لا ينظر إلى الفوائد الروحية والتربوية والسلوكية والصحية التي تعود على المواطنين من الصيام وبالتالي على المصلحة العامة؟ 5
المثال الثاني: يرى عدد من المعاصرين أن الحجاب لم يعد ملائماً للعصر، ولا لمكانة المرأة وتحررها واقتحامها لكافة مجالات الحياة العامة من مدراس وجامعات ومعامل وإدارات وأسفار وتجارات، لأن هذا الحجاب يعوق حركة المرأة ويعرقل مصالحها.
فهل هذه الدعوى صحيحة من جهة تحقق المصلحة أو عدمها؟
يجيب الدكتور الريسوني:
“إذا تجاوزنا الخطابات المبهمة والشعارات التحديثية ذات التأثير الإشهاري الجذاب، فإننا لا نجد أي مصلحة حقيقية راجحة يعوقها الحجاب ويفوتها. وأحسب أن الواقع المعيش والمشاهد في العالم كله الإسلامي والغربي أصبح اليوم يشكل أبلغ رد على كل ما يقال عن السلبيات المدّعاة للحجاب، فلم يعد الحجاب قريناً للجهل والأمية والخنوع والتخلف، بل أصبح في حد ذاته رمزاً للتحرر والتمسك بالحقوق والمبادئ، ورمزاً للصمود والمعاناة في سبيلها، وهي رمزية لم تكن له فيما سلف يوم كان شيئاً عادياً يقبله الجميع ويسلم به الجميع. وهذا فضلاً عن كون ذوات الحجاب يوجدن اليوم بجدارة وكفاءة في كل موقع من مواقع العلم والعمل الراقية المتقدمة، ولا يختفين إلا من المواقع التي يُمنعن منها أو لا تليق بكرامتهن وخلقهن” 6.
ثم يضيف د. الريسوني: “إن الحجاب تظهر قيمته ومصلحته اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبيان ذلك أن المرأة اليوم تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ودورها في الجسد المزوّق المنمق المعروض في كل مكان، والمرأة -على نطاق واسع وعت أو لم تع قصدت أم لم تقصد- واقعة هي أيضاً في فتنة الجسد وفي فتنة اللباس، أو بعبارة القرآن الجامعة في فتنة التبرج..”7

المثال
الثالث: يرى بعض العلمانيين المتطرفين أن قطع يد السارق من العقوبات المتخلفة البدائية الهمجية التي لا تليق بهذا العصر المتحضر8 ، ويلجأ آخرون إلى تحريف النص القرآني المتعلق بحد السرقة تحت مسمى التأويل9 ، بينما يختار فريق ثالث أن القطع عقوبة مرتبطة بظروفها التاريخية، وأنه كان يحقق المصلحة في الظروف العربية البدوية حين نزل النص بسبب عدم وجود السجون، وعدم إمكانية وجودها في بيئة يعيش أهلها على الحل والترحال، أما اليوم فلم يبق له ما يسوغه بسبب تغير الحال والظـروف، وتوفر السجون فلم يعد الحد -القطع- يحقق المصلحة المرجوة 10.
وأصحاب الاتجاهات الثلاثة مجمعون على أن العقوبة فيها قسوة وعنف من منظورنا المعاصر، وأن هذه القسوة وهذا العنف إذا كان ملائماً لذلك المجتمع البدوي القاسي، فإنه لا يليق بالمجتمعات المتحضرة اليوم.
يجيب الدكتور الريسوني بقوله: “إن العقوبات المنصوصة في الإسلام تتسم بقوة الزجر، وسهولة التنفيذ، فهي زاجرة إلى أقصى الحدود للجناة ولغيرهم، ومن حيث التنفيذ لا تكلف ميزانية ضخمة ولا جهازاً بشرياً واسعاً ولا وقتاً طويلاً كما هو الشأن في عقوبة السجن.
فإذا جئنا إلى حد السرقة وهو القطع وجدناه محققاً مقصوده ومصلحته بدرجة عالية، والحق أن مجرد الإعلان عن إقرار عقوبة القطع يؤدي إلى زجر عدد واسع من السراق … وإراحة المجتمع من سرقاتهم ومحاكمتهم وحراستهم وإطعامهم في سجونهم، ويتحقق هذا بدرجة أوسع وأبلغ حين يُشرَع فعلاً في تنفيذ العقوبة ولو على أفراد معدودين، فإقرار عقوبة القطع والشروع في العمل بها يخفض جرائم السرقة إلى العشر أو أقل، وهذا هو عين المصلحة وأقصى درجاتها في موضوعنا الذي هو صيانة الأموال وأصحاب الأموال من العدوان والخوف..
ثم يضيف د. الريسوني “ومعنى هذا أننا سنكون أمام مصالح عظمى سيجنيها الأفراد والمجتمع والدولة ومؤسساتها وميزانيتها، مقابل أفراد قلائل سيتضررون بما كسبوه ظلماً وعدواناً. وإذا كان قطع بعض الأيدي يسبب تعطيلاً جزئياً لأصحابها في عملهم وإنتاجهم، فإن في سجن الألوف من السراق لشهور وسنوات تعطيلاً لهم، يضاف إلى ذلك أن السجن يشكل -في كثير من الحالات- مدرسة ممتازة لتعليم الإجرام، وربط العلاقات بين المجرمين، فهاتان مفسدتان لا بد من وضعهما في الميزان، فهل إذا نظرنا إلى المسألة من مختلف وجوهها المصلحية -مما ذكرت ومما لم أذكر- يبقى مجال للظن بأن حد السرقة لم يعد ملائماً للمصلحة ولظروفنا الحالية؟” .11
..لقد عرضنا هذه النماذج الثلاث التي اختارها د. أحمد الريسوني لصلتها الوثيقة بهذا البحث، ولأنها تتناول مسائل ساخنة وخصوصاً المسألتين الأخيرتين اللتين تمثلان نموذجين لموقف العلمانيين من قضايا المرأة، ومسائل الحدود بشكل عام، ولأن النقاش أيضاً اتجه إلى تحقيق مناط الحكم وهو محـل الخلاف في أغلب الأحيـان بين الإسلاميين والعلمـانيين.. بل إن النقاش اتجه إلى تحقيق المناط الخاص للقضايا المذكورة وصلتها بالواقع المعيش اليوم، وهي قضية في غاية الأهمية يجب أن لا نتغافل عنها.
—————————-
(1) الطوفي؛ رسالة في رعاية المصلحة ص 44- 45
(2) الريسوني؛ الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة ص:38
(3) الريسوني؛ الاجتهاد: النص الواقع المصلحة ص:39
(4) كتابه لبنات 165 فما بعد، وكتابه الإسلام بين الرسالة والتاريخ ص:64
(5) الريسوني؛ الاجتهاد: النص والواقع المصلحة ص:39-41
(6) الريسوني؛ الاجتهاد النص الواقع المصلحة ص:43
(7) الريسوني؛ الاجتهاد والنص الوقع المصلحة ” ص 44 ، 45 . هل يمكن لعاقل أن يتصور أن المصلحة في أن تكشف المرأة عن كل جسدها ما عدا شريط يستر سوأتها كما يخبص شحرور؟! انظر: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، ص:606–607
(8) عزيز العظمة؛ العلمانية تحت المجهر، ص:190
(9) د. محمد شحرور؛ نحو أصول جديدة ص:99-103 حيث يؤول القطع بالكف أي كفوا أيديهما عن السرقة بالسجن مثلاً
(10) د. محمد عابد الجابري؛ وجهة نظر ص:57-60
(11) الريسوني؛ الاجتهاد والنص الواقع المصلحة، ص:47-49.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *