الواجب شرعا ومنطِقا؛ أ ن نعالج الداء المتسبب في الخلل، دون أن نتعرض لأمر شرعه الله لا يمكن أبدا أن يكون داءً، بل هو في حقيقة الأمر علاج لأدواء كثيرة.
فالخلل فينا وفي سلوكنا وفكرنا، لا في التعدد.
ترى المنظمات النسائية العَلمانية، ومن وراءها النظم الغربية أن نظام تعدد الزوجات نظام منحط مجحف بالمرأة! ولذلك يدعون إلى إلغائه من قوانين الدول التي لا يزال معمولا به فيها، ويعتبرون إلغاءه من حقوق المرأة التي تضمن مساواتها بالرجل.
والقوم ينكرون على شريعة الإسلام إباحة التعدد، في الوقت الذي يبيحون الزنا والشذوذ الجنسي؛ وهكذا فالرجل في فكرهم المنكوس وتصورهم المعكوس، لا يلام إذا زنا بألف امرأة، لأن هذا من حقه، وهو من الحرية التي ينبغي أن نكفلها له، فإذا تزوج امرأتين فقد أتى جريمة نكراء، يعاقب عليها القانون!!!
وإن تعجب فعجب من قوم جمعوا في فكرهم، وبالتالي ممارساتهم؛ بين استقباح تعدد الزوجات، واستحسان تبادل الزوجات! بل وإباحة ممارسة اللواط والسحاق.
وقد اتسعت دائرة هذا الانحراف كثيرا بين الغربيين ومقلديهم في السنين الأخيرة، ومارسه مشاهير في عالم السياسة والفن والاقتصاد، وكثرت الجمعيات الداعية إليه والحكومات المشجعة له والمدافعة عنه.
ومثال على ذلك؛ ما جرى في ألمانيا في الثمانينات من إقدام الحكومة على اقتراح مشروع قانون يقضي برفع الحظر عن تبادل الزوجات، وإباحة ممارسة الشذوذ الجنسي ابتداء من سن ثمان عشرة سنة بدل إحدى وعشرين سنة. وقد وافق البرلمان على القانون بأغلبية (254) صوت، في مقابل (203) صوت. [1]
..فهذه النجاسات يُروَّج لها ويدافع عنها باسم الحرية والتفتح، وما شرعه الله من نظام التعدد يحارب وتشوه صورته باسم محاربة الرجعية ونبذ الظلامية، فاللهم غفرا.
وقد نشط المستغربون في محاربة التعدد في البلاد الإسلامية التي لم يحظره قانونها. [2]
وأسسوا لذلك الجمعيات الكثيرة، وأقاموا الأنشطة المختلفة، وزينوا للناس دعوتهم عبر الإعلام، واجتهدوا في الوصول إلى مراكز الحكم، لفرض قناعتهم الخاطئة على الأمة.
وفي هذا اعتراض سافر على رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} (النساء 3).
وقد بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بيانا شافيا لا يترك مجالا للنقاش أو الجدال:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أسلم غيلان بن سلمة الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، وأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا. [3]
واشترطت الشريعة على الرجل؛ العدل إذا أراد أن يعدد كما هو واضح في الآية، وهو غير العدل المذكور في قول الله تعالى: “وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً” النساء 129.
إذ المقصود بالعدل هنا، العدل في المحبة والميل القلبي، لا العدل في النفقة والمبيت ونحوهما من الأمور المادية؛ فهذا الأخير، مقدور عليه مشترط، والآخر خارج عن قدرة الرجل، لكن لا ينبغي أن يميل مع طبيعته حتى يترك إحدى الزوجات كالمعلقة لا هي متزوجة ولا هي مطلقة.
والله سبحانه وتعالى شرع التعدد لحِكَم كثيرة، ولحاجة الناس رجالا ونساء إليه.
يقول محمود شاكر: “وشرع تعدد الزوجات لأننا بحاجة ماسة إليه؛ يتزوج عادة الشباب فتيات أصغر منهم سنا، وهذا ما ينشأ عنه بعد مدة فتيات ليس لهن أزواج، فلو فرضنا أن الشباب يتزوجون في سن الخامسة والعشرين بفتيات في سن العشرين، وهذا ينتج عنه جيل من الفتيات لا أزواج لهن بعد مرور أربعة أجيال أو حسب هذا التقدير بعد ثمانين سنة، هذا الجيل من الفتيات العوانس لا حل لهن إلا التعدد، وإلا عَمَّ الفساد، وانتشر الفحش، وعاش بعضهن في عقد نفسية، وانعكس ذلك على المجتمع، وهذا لم يقل أحد به ولكن يحدث فعلا، وهو سبب انتشار الفساد وزيادة الفتيات العوانس صاحبات العُقد النفسية، وهذا يتناسب طردا مع البلدان التي لا يوجد فيها التعدد، وإن كان يختفي أحيانا تحت ركام المفاسد واتخاذ الخليلات وهو ما لا يقبله مسلم. هذا إضافة إلى الحروب التي يكون وقودها الرجال عادة، كما يتعرض الرجال إلى الحوادث التي تذهب ضحيتها الأعداد بسبب عمل الرجال في الأعمال الشاقة التي تحدث فيها النكبات والحرائق، مثل: العمل في الغابات والمناجم وعلى ظهر السفن والسكك الحديدية وفتح الأنفاق وبناء السدود ومقالع الأحجار…، ومع هذا النقص في الرجال يرتفع معه عدد الفتيات اللواتي لا أزواج لهن، وتزيد المشكلة ولا يحلها إلا التعدد…
إن كثيرا من النساء يرغبن أن يكن زوجات لرجال لهم زوجات ويرين في ذلك خيرا لهن من أن يعــشن حــياتهن كلها بـــلا أزواج ولا يعرفن ما فطر الله فيهن من غريزة الجنس، ويفضلن أن يعشن في بيت فيه أنس، من أن يحيَيْن وحيدات في بيوت ليس فيها إلا الوحشة والقفر… ويرين أنه من الخير لهن أن يعشن مع ضرائر من أن يحرمن من عاطفة الأمومة، وإذا كان هناك بعض من يخدعن أنفسهن فيرفضن هذا الكلام تحت تأثير الفكر النصراني الأوروبي، فإنهن يخالفن الطبيعة التي فطرن عليها إذ يعترفن بالغريزة الجنسية وعاطفة الأمومة وأنهما من طبيعة النفس البشرية التي خلقها الله، والمرأة لا تحتاج إلى المال والمساعدة فقط، وإذا كانت هذه الحاجات المادية أساسية لها للبقاء، فإنها بحاجة إلى أشياء معنوية أخرى وهي جوانب نفسية ملحة لا تستقر من دونها النفس ولا تجد الراحة والطمأنينة: وهي الرجل والعاطفة التي قد يكون الإنسان بحاجة إليها وهو في سن كبيرة أكثر من حاجته إليها مرحلة الشباب؛ فالحنان والعطف والشعور بالتقدير والحب أمر مهم جدا بالنسبة إلى الإنسان في مرحلة الشيخوخة، وما يُؤدِّيه الزوجان بعضهما من بعض لا يمكن تأديته من آخرين، فالمرأة بحاجة إلى الزوج الذي يواسيها ويحنو عليها في كبرها، وإن تجالدت وصبرت على فقده في سن الصبا مكرهة”. [4]
.. والتعدد لا يمثل ظاهرة سيئة في المجتمع إلا إذا فُقد فيه العدل والتربية الإسلامية الصحيحة، كما حصل للمسلمين حين انتشر بينهم الجهل واتباع الهوى، فعدّدَ رجال جهال منحرفون سيِّئو الأخلاق فاسدو السلوك، فأجحفوا وظلموا وأساءوا، وكانوا وراء هذه الصورة التي يحملها كثير من الناس عن التعدد.
وأمثال هؤلاء؛ زوجة واحدة لا تسلم من شرهم! فكيف إذا عَدَّدوا!
وما صدر -ويصدر عنهم- مما ذكرتُ بعضه؛ لا يبيح لنا أن نحرِّم ما أحل الله، أو نضع له شروطا تعجيزية، تجعله في حكم المُحَرّم!
بل يوجب علينا أن نسعى في تنشئة وتربية الناس على الأخلاق الإسلامية، التي يُمَثل غيابها السبب الرئيسي لما عليه المسلمون من سوء التعامل فيما بينهم؛ سواء كان ذلك بين الزوج والزوجات، أو الزوج والزوجة الواحدة، أو الأبناء مع الوالدين، أو التلميذ مع الأستاذ، أو الجيران فيما بينهم .. أو غير ذلك.
أما أن ننسب الخلل إلى التعدد نفسه فهذا خطأ فاحش في التشخيص، تترتب عليه أدواء أخرى، دون أن يعالَج الداء الأول، وما مثل من وقع في هذا الخطأ من المنظرين الاجتماعيين، إلا كمثل طبيب جاءه مريض لا يدري سبب مرضه، فأخطأ الطبيب في تشخيص المرض، ووصف له علاجا لا يحتاج إليه أصلا، فبقي يعاني من المرض الحقيقي حتى هلك، لذلك لا ينبغي أ ن نقول: تعدد الزوجات يؤثر سلبا على المرأة والأسرة، بل الصواب أن نقول: تعدد الزوجات في إطار غياب التربية الإسلامية الصحيحة، يؤثر سلبا على المرأة والأسرة.
والواجب شرعا ومنطِقا؛ أ ن نعالج الداء المتسبب في الخلل، دون أن نتعرض لأمر شرعه الله لا يمكن أبدا أن يكون داءً، بل هو في حقيقة الأمر علاج لأدواء كثيرة.
فالخلل فينا وفي سلوكنا وفكرنا، لا في التعدد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جريدة الأهرام القاهرية نقلا عن كتاب مكانة المرأة ص.193
[2] كان هذا من مطالب واضعي ما سموه بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية. انظر ص129 من الخطة.
[3] رواه أحمد (2/83) وصححه الألباني في الإرواء (1883) وهو في الموطأ (1352) مرسلا.
[4] مفاهيم حول الحكم الإسلامي (ص.65- 67)