نحو أسرة تبني مجتمعها {نور من القرآن والسنة يتخلل واقع الأسرة المظلم في مجتمعنا المغربي ..} فقه الزواج (الحلقة الثانية) حماد القباج

تحدثنا في الحلقة الأولى من هذا الموضوع البالغ الأهمية؛ عن مَعْلمين أساسين في طريق زواج ناجح؛ وهما: (تصحيح المقاصد) و(حسن الاختيار)، وأدير رحى هذه المقالة حول مَعْلم آخر لا يقل أهمية عن سابقَيه، إذ هو شرط في النجاح المذكور؛ وهذا المعلم هو: (المعاشرة بالمعروف).

والمعاشرة: مفاعلة من العِشْرة؛ وهي المخالطة، وهذه المخالطة لا بد منها في كل زواج، وهي شيء زائد على مجرد التعلق والارتباط؛ وإذا كان هذان الأخيران محفوفين عادة بالمحبة والمودة، قائمين على الإعجاب والتقدير، فإن المخالطة تبرز الجوانب السلبية في الحياة الزوجية، وتظهر ما عند طرفي الزواج من خلل وعيب لا يسلم منهما -في الجملة- بشر، وإنما يتفاوتون بحسب ما تلقوا من التربية، ولُقنوا من المبادئ، من هنا جاء النص القرآني يهدي للتي هي أقوم، ويرشد إلى الذي هو أنفع للفرد والجماعة:
أمر الله تعالى الأزواج أن تكون مخالطتهم لزوجاتهن بما عرف حسنه في الشرع والعرف المعتبر، وتضافرت نصوص القرآن والسنة على تأكيد ذلك وشرحه وبيانه:
– قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء 19).
وهذه الآية الكريمة هي: الآية التاسعة عشر من سورة النساء، المتضمنة الوصاية بالنساء وبيان أصول الأحكام المتعلقة بهن، وبمحيطهن الطبيعي: الأسرة.
وسأقسم الكلام حولها إلى قسمين:
الأول: مع قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: “يعني جل ثناؤه بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}؛ وخالقوا أيها الرجال نساءكم وصاحبوهن “بالمعروف”؛ يعني بما أمرتكم به من المصاحبة؛ وذلك: إمساكهن بأداء حقوقهن التي فرض الله جل ثناؤه لهنّ عليكم إليهن، أو تسريح منكم لهنّ بإحسان”. [جامع البيان (ج8/ص121)].
ويؤكد دلالة الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: “فإن لزوجك عليك حقا”. متفق عليه، وفي رواية لمسلم: “وإن لزوجك عليك حظا”.
وهذا يشمل الحق المعنوي والمادي، ويشمل القول والفعل والسلوك؛ ولذا قال الإمام ابن كثير في تفسير الآية:
“وقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]”. [تفسير القرآن العظيم (ج2/ص242].
وهكذا فإن من حق المرأة على زوجها أن ينفق عليها بما يسد حاجاتها؛ فيوفر لها المطعم والكسوة والسكنى وغيرها من الماديات بقدر الوسع والطاقة، وبمراعاة العرف المعتبر.
ويعطيها حقها في الفراش بحيث لا تتشوف إلى غيره.
ويحرص على تعليمها ما تجهل من أمور دينها، وما ينفعها من أمور دنياها.
ويعينها على العمل لآخرتها، ويجتهد في إكرامها والإحسان إليها بالقول والفعل..
فهذا كله داخل في العشرة بالمعروف.
ويقابل ذلك: العشرة المنكرة؛ بأن يكون جبارا متسلطا، يسعى في الإضرار بها ماديا أو معنويا، وأذيتها بالقول أو بالفعل؛ وهذا من الكبائر لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب 58]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” [رواه مالك].
وسيأتي بيان حكم من هذا حاله، وأنه من أشر الناس وأبعدهم عن الله.
– ومن الأصول القرآنية في باب المعاشرة الزوجية؛ ما تقدم من قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة 228).
قال العلامة محمد رشيد رضا: “هذه الكلمة جليلة جدا جمعت على إيجازها ما لا يؤدَّى بالتفصيل إلا في سِفر كبير، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية.
وقد أحال في معرفة مالهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشرتهم ومعاملتهم في أهليهم، وما يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجته في جميع الشؤون والأحوال؛ فإذا همَّ بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: (إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية).
وليس المراد بالمثل؛ المثل في أعيان الأشياء، وإنما أراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وهناك عمل يقابله لها، إن لم يكن مثله في شخصه فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به ويكره ما لا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين في الآخر ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه في مصالحه” .
– ومن العشرة الحسنة: العمل بما دل عليه قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم 21).
فالسكون هنا يوحي بمعاني الأنس والاستقرار، وهما مبنيان على (التقدير والاحترام)، والمودة: درجة رفيعة من درجات الحب، الذي هو عنوان (التعلق والارتباط)، والرحمة: صفة تبعث على (حسن المعاملة).
وهذه الثلاثة أركان الحياة الزوجية السعيدة ..
يتبع

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *