نحو أسرة تبني مجتمعها {نور يتخلل واقع الأسرة المظلم في مجتمعنا المغربي..} فقه الزواج (الحلقة الثالثة) حماد القباج

لا يزال كلامنا في هذا الموضوع موصولا بمسألة العشرة الزوجية، وعرضها من خلال ما أرشدَتْ إليه نصوصُ الوحيين، ودلت عليه أحكامهما المنيفة وآدابهما الشريفة.

وتتمة لما تقدم في الحلقة السابقة؛ أقول:

إن من العشرة الحسنة بين الزوجين؛ عمل الأزواج بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «استوصوا بالنساء خيرا» (متفق عليه).
وقوله: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائكم». (رواه الترمذي وصححه).
وعن المقدام بن معد يكرب أن النبي صل الله عليه وسلم  قال: «إن الله يوصيكم بالنساء خيرا، إن الله يوصيكم بالنساء خيرا فإنهن أمهاتكم وبناتكم وخالاتكم، إن الرجل من أهل الكتاب ليتزوج المرأة وما يعلق يداها الخيط فما يرغب أحدهما عن صاحبه حتى يموتا هرما».(الصحيحة).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صل الله عليه وسلم قال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».(رواه الترمذي وحسنه).
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: “في ذلك تنبيه على أن أعلى الناس رتبة في الخير وأحقهم بالاتصاف به هو من كان خير الناس لأهله، فإن الأهل هم الأحقاء بالبِشْر وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضرر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس، وإذا كان على العكس من ذلك فهو في الجانب الآخر من الشر وكثيرا ما يقع الناس في هذه الورطة فترى الرجل إذا لقي أهله كان أسوء الناس أخلاقا وأشجعهم نفسا وأقلهم خيرا، وإذا لقي غير الأهل من الأجانب لانت عريكته وانبسطت أخلاقه وجادت نفسه وكثر خيره، ولا شك أن من كان كذلك فهو معدوم التوفيق زائغ عن سواء الطريق؛ نسأل الله السلامة”. نيل الأوطار (6/210).
فعلى الرجال أن يتأدبوا مع نسائهم بآداب السنة المطهرة والشريعة الحنيفية، وليوقنوا أن حُسْن معاشرتهم لهن قُربة يتقربون بها إلى الله، وسبيل يتوسلون به إلى مرضاته، وليجعلوا قدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال العماد ابن كثير: “وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بهم، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك. قالت: سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: “هذِهِ بتلْك”. ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]”. [تفسير ابن كثير – (ج 2 / ص 242)].
.. وبعد هذا أقول: إن بعض الأزواج يُقِرُّ بفضل ذلكم السلوك، ويشهد بحسنه، لكن يقول: زوجتي لا تستحق ذلك؛ لأن فيها خصالا سيئة! .. ونحو هذا من الكلام الذي يدل على قيام حاجز في النفوس، يحول دون الاستفادة من التوجيهات السابقة، وهنا يأتي تمام الآية -التي جعلناها منطلقا للكلام عن العشرة الزوجية-؛ لعلاج هذا الداء؛ وهو:
قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.
قال أبو السعود (ج2/ص56): “{فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} علةٌ للجزاء، أُقيمت مُقامه للإيذان بقوة استلزامِها إياه؛ كأنه قيل: فإن كرِهتُموهن فاصبِروا عليهن مع الكراهة، فلعل لكم فيما تكرَهونه خيراً كثيراً ليس فيما تُحبّونه”.
قلت: ومن الأحاديث المؤكدة للآية، المبينة لها:
قول النبي صل الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقا رضي منها آخر».(رواه مسلم)
قال العلامة الشوكاني: “فيه الإرشاد إلى حسن العشرة والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خلق من أخلاقها فإنها لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه فلا ينبغي ترجيح مقتضى الكراهة على مقتضى المحبة”.
وأودّ هنا أن أسترعي الانتباه؛ إلى أن هذين التوجيهين من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعالجان داء من أدواء العشرة الزوجية، كثيرا ما يكون معول هدم وسبب فرقة؛ وهو ما يمكن أن نسميه: (تطلب المثالية في الحياة الزوجية).
وهذه آفة كثير من الأزواج؛ يظنون بأن الزوجة المحجبة إنسان معصوم، وأن المرأة الصالحة بَشر لا يخطئ، تماما كما تعتقد بعض النساء أن زواجها مرتع خصب لتحقق أحلامها وما نسجه خيالها أيام تفكيرها في الزواج، تلك الأحلام التي تضاعفت أيام الخطوبة، المليئة بالتصنع والتكلف…
فسرعان ما يصطدم ذلك كله بصخرة الواقع، اصطداما قد لا تجتمع أشلاؤه، وربما لن تلتئم أطرافه.
فليسدد الزوجان وليقاربا، فإنه لا كمال في نعيم الدنيا، {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}..

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *