لا يخفى على نبيهٍ أننا نعيش في زمانٍ أضحى من سماته: التباس الحق بالباطل، وقد أسهم في ذلك؛ تفشي الإعلام بكل صوره وأشكاله، هذا الإعلام الذي يوهم الكذبةُ من خلاله صواب الخطأ وخطأ الصواب، ويجعلون بسببه المحمود مذموما، والمذموم محمودا، والقبيح حسنا والحسن قبيحا…
قصة اليوم العالمي:
إن ما يسميه الكثيرون باليوم العالمي للمرأة، يرجع في أصله إلى الحركة النسائية الاشتراكية التي قامت في أمريكا ثم أوروبا تطالب بإنصاف المرأة العاملة ومساواتها بالرجل في الأجر، ثم توسعت مطالبها لتشمل مساواتها المطلقة بالرجل في كافة المجالات، سيما المجال السياسي، ثم طالبت بالتحرر المطلق، الذي يشمل تحرر المرأة من قيود الدين، الذي يعده القومُ عدو المرأة، والعائق أمام حريتها ومساواتها بالرجل!
ولما توسع نشاط الحركة المذكورة؛ سعت لاتخاذ يوم عالمي يكون بمثابة محطة مراجعة وتحليل لما تم إنجازه في سبيل تحقيق المساواة والحرية.
وكان الاتفاق على تعيين ذلك اليوم؛ في المؤتمر الثاني للنساء الديمقراطيات الاشتراكيات في كوبنهاجن (الدانمارك) عام 1910.
ثم أقاموا أول احتفال بيوم المرأة العالمي في 8 مارس عام 1913، وجعلوا ذلك سُنة متبعة.
ثم دعت الحركة النسوية العلمانية في البلاد الإسلامية إلى اتباع الغربيين في سنتهم تلك، وبلغ تعلق الحركة المغربية بهذا اليوم وفلسفته؛ إلى درجة أن أصدرت عام 1983 جريدة بعنوان: (8 مارس)، اتخذتها منبرا للدعوة إلى قناعاتها العلمانية حول المرأة والأسرة، وجعلت أهم مرتكزات تلك الدعوة تغيير بنود من مدونة الأحوال الشخصية.
وفي المعطيات المتقدمة دلالات وإيحاءات لا بد من توضيحها:
اليوم العالمي؛ دلالات وإيحاءات:
أولا: اتخاذ هذا اليوم يوحي بأن إنصاف المرأة وتخليصها من الظلم وتمتيعها بحقوقها إنما هو وليد النهضة الغربية.
والحق أن ذلك حصل للمرأة منذ أن أوحى الخالق جل وعلا إلى خاتم الرسل والأنبياء، وأنزل عليه شريعة كاملة مصلحة لما فسد من أحوال الناس، بما في ذلك الفساد الذي تخلل واقع النساء في المجتمعات الجاهلية.
ونذكر في هذا السياق بأن المرأة كانت أول من أدرك قيمة ذلكم الوحي، وأيقنت بحاجة الناس -رجالا ونساء- إليه، وأنه طوق النجاة وسبيل الاستقامة على حياة سعيدة يحفها العدل، وتغشاها الرحمة.
ويُثبتُ الأوليةَََ المذكورة؛ كونُ السيدة خديجة رضي الله عنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره، وهذا سبْق له أكثر من معنى، ومن ذلك ما أشرت إليه.
وإذا كان ثمة مسوغ للغربيين في اتخاذهم مثل هذا اليوم، فإن المسلمين لا حامل لهم على ذلك، ولنسائهم اكتفاء بأنواع الإكرام والإنصاف التي حوتها الشريعة الغراء، وما تضمنته –في هذا الباب- من أحكام رحيمة عادلة.
وإذا كنا نختلف مع اللادينيين والعلمانيين في تحديد معايير تحرير المرأة وتمتيعها بحقوقها، فإننا نوقن بأن المعايير الصحيحة هي تلك التي وضعتها الشريعة الإلهية، التي أنزلها اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.
ثانيا: منطلقات اتخاذ هذا اليوم؛ يوما عالميا للمرأة وأسباب ذلك:
وقد ظهر فيها التحيز للنموذج الغربي المادي؛ ويتجلى ذلك بمعرفة مذهب الغربيين -المسيطرين سياسيا- في مسألة “عمل المرأة”؛ الذي يتلخص في كون “العمل” هو ذلك الذي تقوم به المرأة خارج بيتها، وتتقاضى عليه مقابلاً ماديًّا، وبهذا تعود لدائرة “الإنتاج الاجتماعي” -كما عبرت إحدى الاشتراكيات- وهي تعني “الإنتاج الاقتصادي”؛ فهذه الرؤية تعتبر أن الإنسان الذي يستحق الاحترام هو ذلك الاقتصادي الذي ينتج ويستهلك؛ بمعنى أنه جزء من عالم السوق/المصنع. أما رقعة الحياة الخاصة فيتحرك فيها الإنسان، ويقوم بنشاطات إنسانية كثيرة (أبرزها: التربية والرعاية)، لكن هذه ليس لها مقابل مادي، ومن ثم فهي لا تدخل في دائرة “الإنتاج الاجتماعي/الاقتصادي”!
وهذه مقدمة فاسدة؛ فالنتيجة مثلها.
.. إن الإسلام يرفض إكراه المرأة على العمل للتكسب، بل يأمر –عبر تشريعات حكيمة- بكفايتها ذلك العمل وما يترتب عليه من مفاسد.
ويكفي أن نطلع على درجة الاستغلال الجنسي الذي عانت منه العاملات؛ لندرك قيمة تلكم التشريعات، وقيمة الأحكام الشرعية في تحريم الاختلاط والخلوة ونحوها من الأحكام.
قالت (إيما جولدمان)؛ صاحبة نظرية (التحرر الجنسي):
“لا يوجد مكان اليوم تعامل فيه المرأة العاملة على أساس عملها، بل على أساس الجنس، ولهذا فإنها لكي تحتفظ بحقها في البقاء والعيش، وبحقها في الاحتفاظ بعملها ومصدر دخلها، فإن عليها أن تقدم مقابل ذلك جسمها وفرجها”.
وغير خاف أن الإسلام يعد المجال الصحيح الأهم لعمل المرأة الإصلاحي والتنموي هو البيت والأسرة، وأن هذه الأخيرة أحوج إلى المرأة من باقي المجالات، وقد سبق شرح هذا المعنى في مقالة “ربة البيت”.
ثالثا: إن المرأة التي تمجَّد وتكرم في هذا اليوم، إنما هي المرأة التي انسلخت من دينها، أو على الأقل زهدت في الاستقامة على شرعه الحنيف، وأما المرأة الصالحة الملتزمة بأحكام دينها من صلاة وحجاب وعفة …إلـخ.؛ فلا يُحتفى بها في هذا اليوم، ولا يؤبه بها ما دام تميزها إنما هو في تدينها وخدمة أسرتها، ولقد كرَّمت التظاهرة المغربية المسماة: (خميسة)؛ أصنافا من النساء المتفوقات في مجالات مختلفة! ولم نر منها تكريما للمرأة العالمة بالشرع، ولا احتفاءً كبيرا بربة البيت الناجحة…
والشيء نفسه يلاحظ على مجلات المرأة التي تصدر ببلدنا؛ كـ (نجمة المساء للمرأة المغربية)، و(نساء من المغرب)، و(سيتادين) …إلـخ.
رابعا: ويتفرع عما تقدم؛ أن الاحتفال بالمرأة في هذا اليوم، مرتبط بمدى استجابتها لما يمليه شرع الأمم المتحدة في قضية المرأة، ورهين بمدى عملها بتوصيات المؤتمرات العالمية للمرأة، والتي تهدف بالأساس إلى تحقيق الحرية والمساواة المطلقين، بما يؤديان إليه من ضعف التدين أو غيابه، وخدش الحياء والطعن في العفة، بل وهتكها.
ويكفي أن نُذَكّر هنا بما أوصى به مؤتمر بكين من ضرورة إفشاء الثقافة الجنسية بين الشباب والشابات، وتيسير أمر العلاقات الجنسية بينهما، وتسخير قطاعات الإعلام والتعليم والصحة لذلك.
وقد أجمعت مؤتمرات الأمم المتحدة على الدعوة إلى إعطاء المرأة (حق ملك الجسد وحرية التصرف فيه)، ولو بالعلاقات الجنسية الساقطة.
وهنا نتساءل: متى كان هتك عرض المرأة والفتاة إكراما لها، ومتى كان تيسير سبل ذلك والتشجيع عليه احتفاء بها؟
ولكن الإباحيين يغالطون، وبعقول النساء يستخفون.
ولقد بينا في غير ما موطن؛ أن تمتيع المرأة بحقوقها وتخليصها من أنواع الضرر والأذى يرتبط في الفلسفة الغربية ببذلها الجسدي وما تُقدم من عمل مادي، وأنه لا يراعي، بل لا يعتبر أمر صيانة العرض وخدمة الأسرة.
4 وفي الختام أطرح السؤال التالي:
ما هو حظ المرأة الفلسطينية من هذا التكريم العالمي؟!
وهل سيشفع هذا اليوم لمسلمات غزة المحاصرة، فيكون سببا لإخراجهن من أوضاعهن المتردية، وأحوالهن السيئة؟!