كان حسن الترتيب يقتضي أن أبدأ هذه المقالات: (نحو أسرة تبني مجتمعها)؛ بالحديث عن الزواج بصفته اللبنة الأولى في بناء الأسرة، لكن سياقا معينا قيد قلمي، وحكم علي بتقديم هذه المعالم في هذا الموضوع المهم والحساس، فليعذرني القراء الكرام، وعلى رأسهم رائدات هذه الرياض العطرة من جريدتنا الغراء..
إن وصية الحكيم لقمان بن عنقاء بن سدون رحمه الله لابنه ثاران، لا تمثل وصية والدٍ عالمٍ ناصحٍ لولده، بقدر ما أنها دروس نفيسة من ذلك العالم لأهل التربية؛ وعلى رأسهم الأم..
وقد ذُكرت تلك الوصية في التنزيل الكريم؛ من الآية: الثالثة عشر إلى الآية: التاسعة عشر، من سورة لقمان؛ وهي سورة مكية، عدد آياتها: ثلاث وثلاثون آية، وترتيبها في المصحف الشريف: السورة الواحدة والثلاثون.
ويكفي دلالة على نفاسة هذه الوصية وبرهانا على عظيم أهميتها؛ أنِ ارتضاها الخالق جل وعلا، وأنزلها قرآنا تعبّدَنا بتلاوته، وأمرنا باتخاذه دستورا ومنهجا.
وقد اشتملت على سبعة معالم أساسية، مُنظِّمة وموجهة لسير الأم في طريق التربية الشاق والطويل، وقد كتبت هذه السلسلة لبيانها، وتقريبها للأمهات كي يجعلنها ركيزة ومنطلق في ذلكم الطريق:
المعلم الأول: توحيد الخالق جل وعلا
“وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)”
فأعظم إثم الإشراك بالله، ومن ثَم فإن أعظم واجب على العباد هو توحيد ربهم: لأنه سبحانه؛ الخالق المنعم المدبر ملك يوم الدين؛ فلا يليق بعاقل أن يشرك به من لا يخلق شيئا وهم يخلقون، من الملائكة والأنبياء والصالحين والأولياء.
لا يشركهم مع الله لا بدعاء ولا بذبح ولا بنذر ولا بسجود، ولا غير ذلك من العبادات.
قال تعالى: “وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً”(النساء 36).
وقال عز وجل: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون” (البقرة).
أي: لا تجعلوا لله شركاء تصرفون لهم بعض العبادة، والحال أنكم تعلمون أن الله وحده هو الذي خلقكم ورزقكم.
فتُبين الأم هذه الحقيقة لولدها بخطاب يَعِيه، وأسلوب يتناسب مع إدراكه، وتبدي في ذلك وتعيد؛ لأنه أساس كل صلاح.
ومثال على الأسلوب المناسب له؛ أن تشرح له شيئا من إبداع الله في خلقه، في الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة، فلما يستشعر عظمة من صنع تلك الصنعة تذكر له الصانع سبحانه، وتربط التعظيم الذي في قلبه بالمعَظَّم، ثم تسكب في قلبه حبَّه تعالى؛ بتوضيح نعمته علينا وإكرامه لنا بهذا الخلق وتسخيره لنا.
وكمال محبة الخالق وتعظيمه هو ركن العبادة الركين وأساسها المتين.
ثم تنتقل لتنفيره من الشرك، وتوضح له قبحه، وأنه أعظم الظلم، إذ كيف يليق بعاقل أن يترك المنعم المُوجد الممِدّ، ويعبد العبد الفقير الضعيف؟!
ولو ضربت المثال الذي مثل به نبي الله يحيى عليه السلام، لأجادت:
عن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها.. فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ، وقعدوا على الشرف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن:
أولاهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا؛ وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأَدِّ إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده! فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك..” الحديث؛ [رواه الترمذي وصححه].
وهكذا تُكرِّر الأم لولدها ذلك بنماذج مختلفة، تستعين على إيضاحها بالأمثلة الحية، وغيرها.
واعلمي أن لوح قلب الولد مهيأ لأن تنقشي فيه هذه الحقيقة الكبرى؛ لأنه يولد موحدا في الأصل:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِه”. [رواه مالك]
قال العلامة الباجي رحمه الله: “الْفِطْرَةُ فِي الشَّرْعِ: الْحَالَةُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا مِنْ الْإِيمَان” [المنتقى(2 /71)].
فإذا كان والداه مسلمَين؛ سَقَيا هذه النبتة حتى تترسخ جذورها في الأرض، وتنتشر فروعها في السماء، فتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..