يجد الباحث صعوبة في تصديق القول بحرص (هيئة الأمم المتحدة) على حقوق المرأة المسلمة، وهذه الصعوبة لا تنبع من موقف عاطفي مبني على عقيدة راسخة أو (إيديولوجيا) فكرية، بقدر ما يقوم على حقائق ومعطيات موضوعية:
“ففي الوقت الذي جاء في توصيات مؤتمرات المرأة؛ أنه ينبغي تكثيف حملات التضامن مع المرأة في مكافحتها لمناهضة الاستعمار، والعنصرية، والعدوان، من أجل الاستقلال، إلى غير ذلك، وأنه ينبغي تقديم كل ما يمكن من المساعدة للمرأة المكافحة، وأن ذلك يشمل تقديم الدعم من وكالات منظومة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات..
يجد المتتبع لواقع الأمم المتحدة والمنظومات التابعة لها، في تعاملها مع ظروف المرأة في البلاد المضطهَدة المستعمَرة، تناقضاً عجيباً غريباً -خاصة مع المرأة المسلمة- بين تصاريح نشر السلم العالمي، وما يتبعها من ألفاظ جذابة منمقة، وبين الواقع الأليم المخزي في عدم نصرة المرأة المسلمة المظلومة وحقوقها المنتهكة، في مواقع شتى من الأرض، كفلسطين، والبوسنة، وكوسوفا، وكشمير، والشيشان، والفلبين، والعراق وغيرها من بقاع الأرض؛ كحقها في الحفاظ على دينها، وعرضها وشرفها، وأرضها، ومالها، وغيرها من الحقوق التي تقرها ثقافة حقوق الإنسان، فضلاً عن الشريعة الإسلامية.
بل إن الأمر وصل إلى أن تغتصب النساء المسلمات في البوسنة وغيرها، من قبل جنود حفظ السلام التابعين للأمم المتحدة؛ وقد تحدثت الصحف العالمية بإسهاب عن مثل هذه القضايا.
واليوم نشاهد بأعيننا صواريخ اليهود الغاشمين تمزق جسد مسلمات غزة، وحربُهم الشرسة تُرَمّل أخريات، وتزهق أرواح فلذات الأكباد من الأقارب والأولاد، وما سبق ذلك من تجويع وتضييع لأبسط مقومات الحياة الكريمة..
فأين نشر السلم والأمن العالميين من قبل (هيئة الأمم المتحدة) ومنظماتها ومؤتمراتها؟ إن الأمر لا يعدو أن يكون نشر السلم والأمن للأمم القوية المتحدة على الأمم الضعيفة غير المتحدة.
ومما يؤكد الكلام السابق أن الدول المسيطرة على هيئة الأمم المتحدة، قد اعترضـت علـى (التوصية المتعلقة بالمساندة وإعلان التضامن مع المرأة الفلسطينية في كفاحها من أجل نيل حقوقها الأساسية)، وصوتت هذه الدول ضد هذه التوصية!!
ونص التوصية ما يلي: “وينبغي لجميع نساء العالم أن يقدمن مساندتهن، بالإعلان عن تضامنهن مع المرأة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ومساندتهن لهما في كفاحهما من أجل نيل حقوقهما الأساسية. وينبغي لمنظمة الأمم المتحدة تقديم المساعدة المادية والأدبية لمعاونة المرأة الفلسطينية، وينبغي تنفيذ برامج ومشاريع محددة لتحقيق هذا الغرض”.
فعلى ماذا يدل اعتراض الدول المهيمنة على هذه التوصية قديما؟
بالأمس القريب، امتنعت أمريكا عن التصويت على قرار مجلس الأمن لصيانة الأرواح والأعراض المنتهكة فوق أراضي غزة الأبية، والتي تجاوز عدد القتلى من النساء فيها: 80 امرأة وفتاة، أما الجريحات فأضعاف ذلك؛ منهن من بترت أعضاؤها، ومزق جسدها..
ومع هذا كله؛ نرى في إعلامنا توجها يبحث عن تأويلات وقراءات لإبراء ذمة الهيئة الأممية من المسؤولية؛ كقول بعضهم: (تشدد حماس هو السبب)، (هذه نتيجة السياسة العمياء لحماس)، وكأنه يطالب المقاومة الأبية بالتسليم لمخطط علمنة المجتمع الفلسطيني، وقيام الدولة الفلسطينية على أسس علمانية تمكن للمشروع الصهيوني (من النيل إلى الفرات)، وهو مشروع ديني محض يؤمن به اليهود إيمانا ضيع نظيره العلمانيون بجهلهم المركب، ونظرتهم القاصرة..
ومن ذلك؛ ما سبقت الإشارة إليه من ضيق صدورهم بالخطاب الذي يُحمّل الهيئة الأممية مسؤولية كبيرة عن مجزرة غزة..
ومعلوم أنهم يرفضون هذا الخطاب لأنه يهدد مشروع علمنة المجتمع، القائم على إحلال شريعة (هيئة الأمم المتحدة) مكان الشريعة الإسلامية؛ فلا يرضون أن تسقط الثقة بالهيئة التي جعلوها ملاذهم وملجأهم للخروج من التخلف والانحطاط، واستبدال المجتمع المدني بالمجتمع الديني!
ويبدو أن هذا الملحظ هو الذي حمل بعض المنابر الإعلامية ببلدنا على استنكار التغطية الشاملة والمفصلة لقناة الجزيرة لأحداث غزة، والتي تُبرز بوضوح (التحيز) السافر لتلك (الهيئة)، تحيزٌ حاولت ستره بقرار عقيم وتصريحات أشد عقما! [انظر: الاتحاد الاشتراكي (ع 9070)].
ومن غرائب ما سُوِّد به هذا العدد -أيضا- مقالة يتيمة لم تهتم بمواساة أهل غزة بقدر ما اهتمت ببيان أن الحرب إنما يشنها الصهاينة وليس اليهود!! (المصدر نفسه).
.. أيها القراء الكرام؛ إن قدرة (هيئة الأمم المتحدة) على إيقاف العدوان على غزة لا يشك فيها، وتلاعبها بقرار كف العدوان وجعله تابعا لمصلحة البعض دون الجماهير أمر جلي لا يحتاج إلى كبير بيان؛ ويكفي أن نمثل له هنا بما حل بالبوسنيين المسلمين من النكال والعذاب الشديد الذي لم يرحم -هو بدوره- امرأة ولا طفلا؛ وكم بقرت فيه بطون الحاملات، واغتصبت فيه الصغيرات، ومُثِّل بأجساد المستضعفات، و(الهيئة) تتفرج! فلما هب المجاهدون لنصرة إخوانهم وحققوا نصرا ظاهرا؛ تدخلت (الهيئة) وسعت في اتفاقية الصلح، وانتقمت بعدُ من المجاهدين الذين قلبوا الموازين وأوقفوا خطة التطهير العرقية..!
والأمثلة التي تُسَوّد صفحة مجلس “الأمن” كثيرة جدا..
وبعد هذا؛ يحق لنا أن نسأل المؤمنين بشريعة الأمم المتحدة، المسَلِّمين لها تسليما، من الجمعيات النسائية وغيرها:
هل يستقيم -عقلا ومنطقا- أن نثق بتوصيات وتوجيهات مؤتمرات هذه الهيئة إلى حد جعلها مرجعا مهيمنا في خططنا لإصلاح وضعية المرأة؟!
وهل يصح -عقلا ومنطقا- أن نزهد -قبل ذلك- في شريعتنا الإسلامية بحمولتها التشريعية والأخلاقية الهائلة، التي تتبوأ المرأة بفضلها مبوأ صدق في مجتمعها، وتنعم بسببها بأحكام تحيطها بعقد منظوم الدرر من الحقوق والمسؤوليات المنسجمة لتحقيق مصالح دنياها وآخرتها؟! كلا..، فهل إلى مراجعة من سبيل؟
وأخيرا: متى يأتي على المهتمين بتنمية بلدنا حين من الدهر؛ يدركون فيه أننا في سياق (احتلال) أخطر من ذاك الذي ابتلينا به حقبة من التاريخ؟ وهو الذي تقود جيوشه: العولمة الاجتماعية الغربية الطامسة للهوية الإسلامية..
وهل يا تُرى يأتي عليهم زمان يدركون فيه أن شريعتنا الغراء كفيلة بتزويدنا بكل عناصر التنمية الحقيقية؟