لقد تحدثنا طيلة الحلقتين السابقتين عن العشرة الزوجية من حيث ما يجب على الزوج وما يستحسن منه في هذا الباب، انطلاقا من توجيهات الكتاب العزيز والسنة الغالية، والتي جعلنا أصلا لها؛ قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء 19).
ونخصص هذه الحلقة لذكر ما اشتمل عليه ذلكم المعين الصافي والرقراق الوافي من توجيهات للمرأة المسلمة في عشرتها لزوجها؛ وننطلق في هذا الموضوع من أصل الباب؛ وهو قول الله عز وجل: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء 34).
تفسير الآية
قال الإمام الطبري رحمه الله: “يعني بقوله جل ثناؤه: “فالصالحات”، المستقيمات الدين، العاملات بالخير، .. وقوله: “قانتات”، يعني: مطيعات لله ولأزواجهن، وقد بينا معنى “القنوت” فيما مضى وأنه الطاعة، ودلَّلنا على صحة ذلك من الشواهد بما أغنى عن إعادته، ..وأما قوله: “حافظات للغيب”، فإنه يعني: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره..
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيرُ النساء؛ امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتك، وإذا أمرَتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك”.
قال: “وأما قوله: “بما حفظ الله”، فإن القرأة (أي القراء) اختلفت في قراءته؛ فقرأته عامة القرأة في جميع أمصار الإسلام: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)، برفع اسم “الله”، على معنى: بحفظ الله إياهن إذ صيَّرهن كذلك”. [تفسير الطبري (8/296)].
من فقه الآية
وهذا التوجيه القرآني ينطوي على فوائد:
منها: أن الزوجة المطلوبة في الأسرة كما يريدها القرآن؛ هي الزوجة الصالحة.
ومنها: أن صلاح المرأة في هذا الباب يرجع إلى أمور ثلاثة: الاستقامة على الدين (طاعة الله سبحانه)، وطاعة الزوج، والأمانة.
الصفات الأساسية في المرأة الصالحة
أما (الاستقامة على الدين)؛ فأساس كل صلاح، لأنها مبنية على الخوف من الله وخشيته سبحانه، وهذا يورث صاحبه رقيبا على سلوكه من نفسه، يحمله على أداء الحقوق، والقيام بما تقتضيه المسؤولية، ولو لم يهدده قانون بعقوبة، أو يتوعده شخص بانتقام.
وأما (طاعة الزوج)؛ فأدب عظيم قلَّ من يفقه سرَّه ويدرك حكمته:
وذلك أن من الفروق بين الرجل والمرأة؛ الفرق بينهما في كثير من الصفات الذاتية المؤثرة على السلوك ومستلزماته، وإن من صفات الأنوثة الفطرية: اللين والسهولة، وهاتان صفتان تورثان سلوك (المطاوعة)، وذلك كله عند المرأة مصدر قوة في معاملتها للغير وتأثيرها في الآخر؛ إن في الخير وإن في الشر، فناسب أن تستثمر الحقيقة المذكورة في إنجاح الرابطة الزوجية، وتوظيفها لتحقيق السعادة الزوجية.
وغير خاف أثر هذا السلوك على الزوج الصالح؛ حيث يملأ قلبه حبا وتعلقا بهذه الزوجة، بل يصير معها -بسببه- كالجمل الأنِف حيثما انقيد انقاد، ولو أرادت نيل ذلك بالشدة لرجعت بخفي حنين، ولخلقت جوا من الصراع يولد إعصارا يعصف بالحياة الزوجية ويقوض دعائم الكيان الأسري..؛ وسبب ذلك؛ أنها بسلوكها المنحرف عن التوجيه الشرعي؛ تستثير ما تنطوي عليه طبيعة الرجل، من الشدة والبأس، التي سرعان ما تورثه سلوكا يطبعه العنف وتهيمن عليه الغلظة والقسوة، فيصير أشبه بالبعير الشموس، الذي يضمر الحقد ويبطش متى تمكن…
ونطالع بهذا الصدد -بالإضافة إلى الآية الكريمة والحديث الذي ساقه الطبري في تفسيرها- قول النبي صلى الله عليه وسلم:
“إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت”. [رواه أحمد وصححه الألباني].
الطاعة مقيدة وليست مطلقة
وبما أن هذا التوجيه مقيد بالمعروف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما الطاعة في المعروف” [متفق عليه].
فإن هذا التقييد؛ يسد الباب في وجه من سولت له نفسه الأمارة بالسوء؛ استغلال هذا الأدب للإضرار بالمرأة نفسيا أو ماديا، فإن الطاعة حينئذ تخرج عن مجال المعروف وتنحرف عن أهدافها النبيلة ومقاصدها الجميلة.
بين الطاعة والمشاورة
ومما يتعين توضيحه؛ أن أدب طاعة الزوجة لزوجها في المعروف لا يلغي أدب التشاور بينهما، وقد قال الله تعالى:
{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة 288).
فأرشد الزوجين إلى التشاور لاتخاذ قرار فطام الرضيع، وظاهرٌ أن غيره من القرارات مثله أو أولى منه بهذا الحكم.
وإنما تظهر المصلحة في أدب الطاعة؛ عند الحاجة إلى الحسم في ما اختلف فيه مما لم يرد فيه نص شرعي، فلا بد حينئذ من اتخاذ الزوج قرارا تتوحد فيه كلمة الأسرة وموقفها، بحكم قوامته التي تتناسب مع طبيعة وظيفته وحجم مسؤوليته.
وأما (الأمانة)؛ فشرط في الاستقرار النفسي، وسلامة البال من الأوهام والشكوك التي تعذب النفس وتورث القلق والاضطراب.
وكيف يسعد زوج لا يأمن زوجته على عرضه وماله وولده؟!
قطوف من السنة
وننتقل بعد هذا إلى ذكر قطوف من السنة النبوية، تؤكد دلالة الآية وتزيدها توضيحا:
عن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها”. [السلسلة الصحيحة].
وعن حصين بن محصن قال: حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله عليه وسلم في بعض الحاجة فقال: أي هذه؛ أذات بعل؟ قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه، لا أقصر في حقه إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك”. (رواه أحمد وقال المنذري: إسناده جيد).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة: الودود الولود العؤود على زوجها، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها، وتقول: لا أذوق غمضا حتى ترضى”. [السلسلة الصحيحة].
فلتحرص المرأة على هذه التوجيهات النبوية الحكيمة في معاملة زوجها؛ فتطيعه في المعروف، وتحفظ ماله، وتصون عرضه، وتتعاون معه على خيري الدنيا والآخرة.
ولتحذر أن تكلفه ما لا يطيق؛ فإن في ذلك مفاسد وأضرارا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصيغ ما تكلف امرأة الغني” [الصحيحة].
همسة
..وبعد؛ فتلك معالم أخرى من القرآن والسنة، في الطريق إلى أسرة تبني مجتمعها، أختم الكلام فيها بهمسة في أذن المرأة:
احذري مما ينشره دعاة التغريب في زماننا هذا من الأفكار والمبادئ، التي تهدد استقرار الأزواج، وتزج بالأسرة في أوحال الصراع والتنافس المدمرين، ولا تغتري بما يرفعون لخداع الناس من شعارات ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب؛ كشعار المساواة ورفع التمييز ضد المرأة..
واعلمي أن في هذه الرياض العطرة صولات وجولات مع تلك المبادئ، لكشفها وتزييفها في ضوء نصوص الوحي وأحكام الشريعة الغراء؛ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة 251).