حكم جلوس الحائض في المسجد من الأحكام التي تمس الحاجة إلى معرفتها للمرأة المسلمة، لارتباطها بعبادة جليلة؛ ألا وهي الجلوس في المسجد للذكر والتفقه في الدين، فقد تكون المرأة حائضا ومحتاجة إلى حضور مجلس من تلك المجالس، فما هو حكم ذلك؟
هذه المسألة من مسائل أحكام الحيض المختلف فيها بين العلماء، والظاهر -والعلم عند الله- أنه يجوز لها الجلوس في المسجد، وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه ومذهب داود والمزني وحكاه الخطابي عن مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله. [انظر: نيل الأوطار للشوكاني (1/289 و291)].
وسبب هذا الترجيح -بالإضافة إلى البراءة الأصلية- ثلاثة أحاديث:
– أما الحديث الأول فهو حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت في الحج: “افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت”.
ووجه الدلالة أن الحاج يشرع له المكث في المسجد للذكر والتفقه، وهذا يشمل الرجل والمرأة، طاهرة كانت أم حائضا، واستثناء الحاجَّة الحائضِ لا يصح إلا بدليل، وإنما نهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف لأنه صلاة.
– الحديث الثاني: حديث المرأة السوداء التي كانت تقيم بالمسجد:
عن عائشة رضي الله عنها أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم. قالت: فخرجت صبيَّة لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قالت: فوضعته أو وقع منها، فمرت به حُدَيَّاة (تصغير حدية) وهو ملقى، فحسبته لحما، فخطفته، قالت: فالتمسوه، فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قُبُلها، قالت: والله إني لقائمة معهم، إذ مرت الحدياة فألقته، قالت: فوقع بينهم، قالت: فقلت هذا الذي اتهمتموني به –زعمتم- وأنا منه بريئة، وهو ذا هو.
قالت: فجاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت. قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حَفَش. قالت: فكانت تأتيني فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت:
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
قالت عائشة: فقلت لها ما شأنك لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا، قالت: فحدثتني بهذا الحديث”. [رواه البخاري 420].
وبوب له: باب نوم المرأة في المسجد.
قال ابن حجر: أي وإقامتها فيه.
قلت: والشاهد في الحديث أنها كانت مقيمة في المسجد، واحتمال كونها ممن يحيض ظاهر، ولم يُرو عنه عليه السلام أنه نهاها عن المبيت إذا كانت حائضا، أو على الأقل سألها: هل تحيضين أم لا؟ وهذا مقام تبيين التحريم لو كان هو الحكم، ومعلوم أنه لا يجوز في حقه عليه السلام تأخير البيان عن وقت الحاجة.
– وأما الدليل الثالث فهو ما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ناوليني الخمرة من المسجد”، فقلت: إني حائض فقال: “إن حيضتك ليست في يدك”.
وقد قيل بأن معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك من المسجد، أي وهو في المسجد لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرجها له من المسجد.
قلت: ظاهر الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في البيت، وأنها دخلت المسجد لتأتيه بالخمرة.
ويؤيده حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرة فتضعها في المسجد وهي حائض”. [أخرجه أحمد والنسائي].
وقد يقال: ليس في الحديث تنصيص على أنها جلست في المسجد، وإنما يستدل به على مشروعية مرورها دون الجلوس.
قلت: هذا صحيح، وليس فيه أيضا ما يمنع الجلوس، بل فيه إشارة إلى مشروعية ذلك، وهذه الإشارة تتقوى بما تقدم من الأدلة.
فائدة
نلاحظ أن الأحاديث الثلاثة المستدل بها على المشروعية من رواية عائشة رضي الله عنها، مما يدل على اهتمامها بنقل الفقه المتعلق بالنساء. اهـ
تلك أدلة ثلاثة على مشروعية مكوث المرأة الحائض في المسجد، وما يظهر منه خلاف ذلك فيه نظر من حيث ثبوته أو دلالته:
أما حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب” فحديث ضعيف؛ رواه أبو داود، وفي سنده راوية اسمها جِسرة بنت دجاجة وهي ضعيفة؛ قال فيها البخاري –مبينا ضعفها-: “عندها عجائب”.
ولذلك ضعف هذا الحديث البيهقي وعبد الحق وابن حزم رحمهم الله وشرح علله الألباني رحمه الله في تخريج سنن أبي داود (32).
وأما قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتى تَغتَسِلُوا} فهذا في الجنب؛ نُهِي عن المكث في المسجد، وإنما يشرع له المرور فيه إذا اضطر إلى ذلك، أما جلوسه فيه جنبا فلا.
عن ابن عباس في قوله: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قال: “لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال: تمر به مرًّا ولا تجلس”.
ولا يصح إلحاق الحائض بالجنب للنصوص المتقدمة، ولأنه قياس مع الفارق: وهو أن الجنب بإمكانه رفع جنابته بالاغتسال بخلاف الحائض، وهذا فارق مؤثر يمنع من القياس.
تنبيه
يجب على الحائض إذا جلست في المسجد أن تحذر من تلويثه بالدم، فيتعين عليها الاحتياط بما يمنع ذلك، فإن لم تأمن تلويث المسجد اتجه في حقها القول بالمنع، والله تعالى أعلم.