إلى وقت كتابة هذه السطور لم نسمع أن مسؤولا في قطاع من القطاعات أو مؤسسة من المؤسسات، أمر النساء بالحجاب وألزمهن به، مع أننا في بلد مسلم، ومن أعظم شعائر الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحجاب الشرعي من أعظم المعروف الذي أمر الله به.
ولو حصل هذا لقامت قيامة العلمانيين ولأزبدوا وأرعدوا، وابتلت الصحف بدموع بكائهم على حقوق الإنسان وحرية الأفراد، وإذاً لعدُّوا هذا الأمر إرهابا ودعوة إلى الظلامية وعهود الانحطاط.
أما حين يتدخل مسؤول بمنع الموظف من أداء واجبه الديني، بل أداء بعضه فحسب؛ فإن سدنة الديمقراطية المزعومة لا يحركون ساكنا ولا ينبسون ببنت شفة.
وبالأمس القريب أنكر خطيب على علماني تطاوله السافر والخطير على بعض أحكام الشرع، فلقنه الأخير درسا سارت به الركبان، وصفق له بنو علمان.
ولما قام خطيب آخر ينكر ظاهرة الشواطئ العارية وما تفشى فيها من مظاهر مخلة بالحياء إلى أقصى الحدود، انهالت عليه الترسانة العلمانية بعبارات التنديد والإنكار الشديدين، وأنه لا يحق له التدخل في شؤون الناس والحد من حرياتهم، وإرهابهم بخطابه المتزمت، وأن للمرأة أن تلبس ما تشاء، وإذا تعرت فذاك شأنها الذي لا دخل لأحد فيه.
.. لكن حين تدخل مدير شركة الطيران لمنع موظفات الشركة من ارتداء حجابهن، لم تسمع للقوم آنذاك حسا ولا ركزا.
والشيء ذاته حصل حين أصدرت المندوبية العامة لمديرية إدارة السجون مذكرة بارتداء الزي الرسمي مع إزالة الموظفات لمناديلهن (كذا)، ثم تهددت من لم يستجب بالعقوبة.
وقد تأذت بهذا القرار الموظفات المحجبات، ورأين في ذلك مسا سافرا بحقهن في الالتزام بأحكام دينهن.
سيما بعد أن وجهت إليهن الإدارة رسائل استفسار حول حجابهن.
ولقد كان من المفروض فيمن ولي مسؤولية أن يستقبل هذا الشهر الفضيل بمزيد من الإقبال على الله وتعظيم ما شرعه ودعوة الناس للالتزام بأوامره عز وجل.
ومنها قوله تعالى مبينا بعض ما شرعه للمؤمنات: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور/31].
وكل مؤمنة لها على الدولة حق تمكينها من ممارسة أحكام دينها وتنفيذ أوامر ربها، وما أقيمت مؤسسة إمارة المؤمنين إلا لرعاية ذلك والسهر على تجسده في المجتمع.
والمسؤول كيفما كان؛ يعمل تحت أوامر ومسؤولية المؤسسة المذكورة، فالواجب عليه أن يعمل بمقتضيات انضوائه تحتها، وهي أمانة يسأل عنها أمام الله، ويحاسب عليها عند أمير المؤمنين الذي جعله موضع ثقته ائتمنه على فئة من رعيته.
إن السعي في علمنة مؤسسات البلاد وتغييب المظاهر الإسلامية فيها سعي غير رشيد، ومسلك غير سديد؛ لأنه يضع البلاد على بؤرة الفتن والاضطرابات، ويعرضها لأنواع الصدام والنزاعات.
وعلى كل من تولى مسؤولية في بلدنا المغرب أن يعلم حقيقة اجتماعية تتعلق بأمته؛ وهي تجذر الإسلام وأحكامه وآدابه في النفوس، وأن الناس مهما تلبسوا به في فكرهم وسلوكهم من أفكار وممارسات مخالفة للإسلام فإنهم سرعان ما يرجعون إلى دينهم حين تضطرب الأمور ويشعرون بأن دينهم يحارب، وليس هذا مجال شرح هذا المعطى وبيان أدلته، فالشعب المغربي شعب ذو خصوصيات متجذرة، ومحاولة اقتلاعها من سلوكه سياسة غير سليمة العواقب.
أما بعد؛ لقد كان من المفروض أن يهتم المسؤول الجديد عن إدارة السجون بالمشاكل الحقيقية التي تفشت في السجون؛ من تردي الأحوال الصحية والنفسية بسبب الجو الموبوء الذي تفشى في كثير من السجون، والذي يعاني منه الضعفاء والمغلوبون على أمرهم، في مقابل ما يلقاه كبار المجرمين من خدمات وعناية بسبب انتشار الرشوة والمحسوبية … إلخ.
هذا هو الذي ينبغي أن تصدر المذكرات بشأنه، وأن يعلن كل من تولى المسؤولية أنه سيسعى لفرض القانون الذي يحظر تلك الانحرافات، وأنه سيضع الخطط المتنوعة لإصلاح تلك الأحوال وجعل عقوبة السجن تؤدي رسالتها المتمثلة في تأديب الجناة وعلاج ما في نفوسهم من أمراض، والحرص على تسليمهم للمجتمع وقد نزع عنصر الشر من قلوبهم.
وليس من الحكمة ولا من التعقل الانشغال عن ذلك بالدخول في حرب باردة مع الأحكام الشرعية والآداب المرعية لديننا الحنيف.
أجل؛ إنها حرب باردة؛ حيث تزعم الإدارة أنها لم تزد على فرض القانون المنظم لزي موظفي السجون، والحق خلاف ذلك فإن الأمر بإزالة المناديل هو شيء زائد على القانون المذكور الذي توخى الانضباط في اللباس وإضفاء المهابة عليه، وهو ما لا ينافيه الحجاب الذي ترتديه بعض الموظفات، ولو تعارضا لوجب تقديم الحجاب لأنه أمر الله، وهو مقدم على كل قانون يخالفه.
وفي الختام أسوق -ونحن في شهر القرآن- لكل مسؤول لم ينتبه لخطورة هذا السلوك؛ ألا وهو منع المؤمن من أداء واجبه الشرعي، آيات كريمات لا أظن مغربيا مسلما يقع في خلاف توجيهاتها، ومن ذلك المندوب العام لإدارة السجون:
قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق/6-19]
قال المفسرون: “الإنسان -لجهله وظلمه- إذا رأى نفسه غنيًا، طغى وتجبر عن الهدى، ونسي أن إلى ربه الرجعى، ولم يخف الجزاء، بل ربما وصلت به الحال أنه يترك الهدى بنفسه، ويدعو غيره إلى تركه.
يقول الله لهذا الإنسان: {أَرَأَيْتَ} أيها الناهي للعبد إذا صلى {إِنْ كَانَ} العبد المصلي {عَلَى الْهُدَى} العلم بالحق والعمل به، {أَوْ أَمَرَ} غيره {بِالتَّقْوَى}.
فهل يحسن أن ينهى، من هذا وصفه؟ أليس نهيه، من أعظم المحادة لله، والمحاربة للحق؟ فإن النهي، لا يتوجه إلا لمن هو في نفسه على غير الهدى، أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى.
… وهذا عام لكل ناه عن الخير ومنهي عنه.