عن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت: “يرحم الله نساء المهاجرات الأُوّل؛ لما أنزل الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، شققن مروطهن فاختمرن به”. [رواه البخاري].
وفي رواية عن صفية بنت شيبة قالت: “ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن، فقالت: إن نساء قريش لفضلاء، ولكني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار؛ أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل: لقد أنزلت سورة النور؛ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان”.
..لقد طغت المبادئ المادية على حياتنا، وكان مما أفرزه ذلك الطغيان -في مجال الدعوات والتحركات التنموية والإصلاحية-؛ غياب البعد الإيماني في أكثرها، وقد بدا هذا الأمر جليا في مبادئ ودعوة (الحركة النسوية التحررية) في بلدنا وسائر البلاد الإسلامية.
فالمتتبع لأنشطتها؛ يلاحظ إقصاءها لدور الإيمان في حياة المرأة، وعملها الإصلاحي والتنموي، مع المبالغة في اعتبارها لعوامل أخرى تقل أهمية بكثير، مثل: الثقافة والكفاءات العلمية والخبرات التقنية والمهنية والرتبة الوظيفية والمشاركة السياسية.. إلـخ.
وبقدر ما نستنكر هذا الجفاء والجفاف الإيماني، فإننا لا نستغربه إذا تذكرنا خلفيات ومنطلقات وقناعات هذا التيار الغريب عن ديننا وهويتنا وثقافتنا، والذي زرع في جسد أمتنا من أجل إصلاح مزعوم، فكان -على العكس من ذلك- سببا لعلل وأدواء رانت على واقعنا، فأخرت الإصلاح ولم تحقق التنمية المنشودة.
ولنرجع بعد هذا؛ إلى الأثر الذي صدّرْتُ به مقالتي هذه؛ ولنتأمل منه قول عائشة في وصف نساء الأنصار: “أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل”.
ثم فسرت ذلك -ممَثِّلة- بواقعة أعقبت تشريع الحجاب:
“لقد أنزلت سورة النور؛ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها، فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان”.
إن الإيمان بالله معناه: الإقرار والتصديق بربوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وما يستلزمه من الإيمان بيوم لقائه والعرض عليه، بناءً على ما تأسس عليه ذلكم الإقرار ولوازمه من الأدلة النقلية والعقلية والأصول الفطرية المورثة لليقين.
وهذا الإيمان هو الذي حمل المؤمنات الأُوَّل على المبادرة إلى تلك الطاعة، ولو لم يتوفرن على مال يمكنهن من ذلكم البدار.
والمرط: الإزار؛ وهو ثوب أكبر من الأثواب التي كانت تغطي بها النساء رؤوسهن، وكانت هذه التغطية قاصرة؛ فأمر الله تعالى بإكمالها:
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: “﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾؛ يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها، ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية؛ فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها، وذوائب شعرها، وأقرطة آذانها، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن”. [تفسير القرآن العظيم (3/288)].
ولما لم تجد المؤمنات ثوبا يمتثلن به الأمر؛ شققن الأزر من قبل الحواشي، واتخذن من ذلك خمُرا.
وإذا كان هذا أثر الإيمان عليهن، فإن ضعف الإيمان أدى بالكثيرات من نسائنا إلى التهاون في هذا الحكم، كما أن غيابه حمل أخريات على إنكاره وحربه!
وهذا يؤكد أن الخطاب الدعوي ينبغي أن يتأسس على قضية الإيمان بالله سبحانه، وأن الخلاف بين دعاة الإسلام ودعاة ما يضاده، لا يرتفع ما دام الخلاف قائما في تلكم القضية..
إن الإيمان بالله تعالى له أثر كبير في سلوك المرأة واختياراتها، ومواقفها المختلفة التي تلعب -هي بدورها- دورا أساسيا في إصلاح المجتمع.
والسر في ذلك؛ أن الإيمان بالله عز وجل يورث المرأة الشعور القوي برقابة الله عليها واطلاعه سبحانه وتعالى على كل أحوالها:
قال سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس 61].
وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء].
وهذا الشعور أعمق بكثير وأقوى أثرا، من ضمير تلعب به الأهواء، وتصبغه بصبغتها، فلا يؤدي دور ذلكم الشعور، ولا يقارب.
فإذا استحكم هذا الأخير في النفس؛ انقلب إلى عمل وسلوك، وظهرت آثاره في محيط المرأة الأسري والاجتماعي.
آثاره على الأولاد، وآثاره في معاملة الزوج، وآثاره في معاملة سائر الأقارب.
ثم آثاره في نطاق أوسع؛ يبدأ بالجار القريب، ويصل إلى من شاء الله من أفراد المجتمع.
وهكذا فإن الإيمان بالله يمنع المرأة من الزج بأولادها في أوحال الهلكة، التي تجعلهم يخربون أمتهم بأيديهم، بل يحملها على أن تجعل منهم صناع مجد وأدوات بناء تكسب الأمة قوة وعزة وصلاح حال.
والإيمان بالله يمنع المرأة من النشوز على زوجها، بل يحملها على طاعته في المعروف، والتعاون معه على خير الأسرة وصلاحها.
والإيمان بالله يمنع المرأة من أذية الجار بقول أو فعل، أو أذية المجتمع بفتنة أو إغواء، أو أذية من أي جنس كانت.
.. إن الإيمان بالله يجعل المرأة تحمل هم أمتها؛ تفرح لعزها وسؤددها، وتحزن لضعفها وهوانها، فسرعان ما يتحول هذا الشعور إلى سعي حثيث من أجل تغيير الوضع المحزن، وإقامة الوضع المفرح.
وذلك كله سجله التاريخ للمرأة العربية لَمّا مس الإيمان شغاف قلبها، فانقلبت من سلعة رخيصة مبذولة، وإنسان مهمش موؤد، إلى مُصلحة اجتماعية، ومسهمة في بناء حضارة شامخة، ذات أصول راسخة.
إن الإيمان بالله يدفع المرأة إلى طاعة خالقها، وخدمة دينه، والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل ذلك.
وقد أعطت الصحابيات رضي الله عنهن المثال الرائع لذلك؛ بمواقف منها ذاك الذي ندير عليه رحى هذه المقالة.
وها هي ذي أم عمارة تعطينا مثالا آخر:
عن أم سعيد بنت سعد بن ربيع: “دخلت على أم عمارة فقلت:حدثيني خبرك يوم أحد.
قالت: خرجت أول النهار إلى أحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلي الجراح.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحا له غور أجوف.
فقلت: يا أم عمارة من أصابك بهذا؟
قالت أقبل بن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله يصيح دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان..
وكان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا، وكانت تقول إني لأنظر إلى بن قميئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة، ثم نادى منادي رسول الله إلى حمراء الأسد، فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، ولقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله من الحمراء ما وصل رسول الله إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها، فسرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم”. [رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8 / 413].
إن ذانك الموقفان العظيمان -ومثلهما كثير-؛ لم يكونا ليتحققا لولا إيمان رسخت جذوره في أعماق القلب، فشكل الأساس لشجرة وفيرة الثمار، وافرة الظلال، تتفيأ الأمة ظلالها، وتجني ثمارها..
والله الموعد.