بحلول الثالث من فبراير القادم، تكون قد انقضت خمس سنوات كاملة على مصادقة البرلمان على مدونة الأسرة بعد تعديلها، تعديلات مرت من مخاضات كثيرة، تزاحمت فيها المتناقضات، واصطدمت الإرادات والقناعات والتصورات..
وفي العاشر من أكتوبر الماضي تم الاحتفال باليوم الوطني للمرأة المغربية، الذي كان محطة لرؤى متنوعة تتعلق بتقييم أثر المدونة الجديدة على الأسرة المغربية والمجتمع عموما، وأقف في هذه المقالة وقفة موجزة مع ذلك التقييم عبر ملاحظتين عامتين:
الملاحظة الأولى: تضخيم المقاربة القانونية وتهميش البعد التربوي في علاج واقع الأسرة المغربية
لقد تأكد لنا من خلال تجربة السنوات الخمس أن المقاربة القانونية في إصلاح أحوال الأسرة (تعديل المدونة)، لا تجدي كبير شيء مع تهاوي منظومة القيم والتراجع الحاد للمستوى الأخلاقي والتربوي، وهو واقع يصعب إنكاره أو التقليل من شأنه.
واقع أكد فشل ما نسعى إليه من تحسين وضعية الأسرة في مجتمع زهد كثير من أفراده في الثروة الإصلاحية التي تتوفر عليها آداب دينهم وشريعته، والتي استعاضوا عنها بعادات وأنماط وقوانين زين لهم سوء عاقبتها، وصورها أصحاب الفكر المهزوز بمظهر التطور القانوني والسلوك الحضاري!
فصبغ الفكر بقناعات إباحية تحللية، ورسم في السلوك خطا منحرفا يجر إلى مسخ الهوية، وزرع داء التبعية المذلة.
.. وهكذا صارت الفرنسية -مثلا- لغة التخاطب الأسمى، وهمشت العربية بحمولتها الشرعية، ومسخ اللباس الشرعي وغيره من مفردات المظهرية التي تصون العرض، وتعطي عنوانا شريفا للباطن، وغاب أدب توقير الكبير ورحمة الصغير وطاعة العالم، وبر الوالد وإكرام الجار..، لتستبدل بذلك: الأنانية والمادية المقوضتان لأركان المجتمع.
فولدت الأمَةُ ربَّتها حتى ضرب الولد أمه، وتمكنت الدياثة من النفوس حتى صار الزوج يقدم عرضه في طبق من ذهب لينهشه كل فاجر شقي، فلا زوجته يسترها، ولا ابنته يصونها، وانتشرت ظاهرة الخيانة الزوجية، وكثر زنا المحارم، واستفحلت أنواع الجرائم، من قتل وخيانة ونهب وتحايل..إلـخ.
أما الطلاق فارتفعت نسبته في عهد المدونة الجديدة إلى 80% حسب إحصائيات لوزارة العدل، وكيف لا ترتفع وقد قطع حب الفواحش أوصال المودة الزوجية، وغُيِّبت معاني الرحمة في أوحال الأطماع المادية الدنية؟!
ولم نسمع شيئا عن صندوق التكافل العائلي الذي كانت خمس سنوات كافية لتفعيله لو حكم من الشريعة -على الأقل- ركن الزكاة كما حكم ركن الصلاة على عجره وبجره!
فأي إصلاح يرجى من المقاربة القانونية في ضوء هذا التدهور السلوكي الحاد؟!!
وكيف نفسر تهميشه في تقييمنا لأثر المدونة؟!..
الملاحظة الثانية: إخضاع المقاربة القانونية لإملاءات خارجية ومحاولة تهميش الشريعة
لم يعد خافيا على أحد أن أيادي الاستغراب حاولت العبث بمسألة تعديل المدونة، وأن مطلب تعديلها كان متأثرا إلى حد كبير بضغوط (اللوبي) المزروع في جسد الأمة للتنفيذ المطلق لتوصيات مؤتمرات المرأة الدولية التي فرضت على الشعوب باعتبارها منارا وحيدا في طريق إنصاف المرأة وتمتيعها بحقوقها! في مقابل الزهد في الشريعة وعدم اعتبارها موردا كافيا للإصلاح المذكور، ولولا جهود بعض العلماء والفضلاء لاتسعت دائرة التهميش..
وفي مثل هذه المناسبات (اليوم الوطني للمرأة) يتعاهد (اللوبي) المذكور، نبتة السوء التي زرعها؛ وبهذا نفسر إحياء مطالب مصادمة للشرع من طرف بعض غلاة النسوية العلمانية، والتركيز في نقد أثر المدونة على أمور جزئية محدودة الانتشار في أسرنا، في مقابل تهميش أمور تفشت حتى استفحلت:
ففي الوقت الذي تنتقد فيه -مثلا- جمعيات نسائية وحقوقية وجود 10 %من زيجات ما دون سن 18 سنة -دون الاهتمام ببيان السنوات الأكثر استثناء، وأسباب تلك الاستثناءات-؛ نجد هذه الجمعيات تغض الطرف عن إشكالية الإجهاض الذي بلغ عدد عملياته أكثر من 300 ألف حالة سنويا، وما صاحب ذلك من استفحال لظاهرة الأمهات العازبات القاصرات.
كما نجدها تغض الطرف عن استفحال ظاهرة العنوسة بوتيرة رهيبة؛ حيث ذكر التقرير الذي أعدته المندوبية السامية للتخطيط بمناسبة اليوم الوطني للمرأة: أن السن الأول للزواج عند النساء انتقل إلى 27 سنة عام 2007، بعد أن كان 23 سنة عام 1987، أما العزوبة في صفوف ذوات الأربع والعشرين فقد بلغت أزيد من 65%، و43% عند من سنهن بين 25 و29.
كما وضح التقرير أن 51% من النساء المغربيات يعشن لوحدهن، 55.9 منهن تتجاوز أعمارهن 60 سنة!
وهذا داء اجتماعي رهيب وغريب على المجتمع الإسلامي الذي يتفيأ ظلال أحكام الشريعة وآدابها، والتي تزداد فيها المرأة مع كبر السن عزا وسؤددا، في مقابل الفلسفة الغربية التي تغرقها في بحار من الأوهام، تتفطن لها مع مرور الزمان وإدبار عنفوان الشباب.
أجل؛ في الوقت الذي يغض التوجه العلماني الطرف عن هذه الأوضاع الكارثية للمرأة المغربية نجده يتباكى على نسبة ضئيلة من زواج القاصرات، ويعيب على المدونة عدم إجبارية عقد اقتسام الممتلكات، وعدم التنصيص على حق المرأة في أن تكون ولية على أبنائها..، كما يشمشم رائحة التعدد المضيق عليه، ليجعله -إذا وجد له رائحة- قضية القضايا، مع أن نسبته تدنت إلى 0.29% من الزيجات عام 2007، هذا التضييق الذي تفشت بسببه أدواء حقيقية؛ كالزواج غير الموثق وما يترتب عليه من ضياع حقوق الزوجة والأولاد، وهذه إشكالية مستفحلة فشلت المدونة أيضا في حلها؛ حيث جعلت 9 فبراير 2009 سقفا لانتهاء عملية تسجيل الزيجات غير الموثقة، وقد دنا الأجل ولم يتجاوز عدد الحالات المسجلة (50.000)!..
إن هذه المفارقة في علاج الواقع الأسري إنما تؤكد أن الدعوة الإصلاحية عند كثيرين تنبني في منطلقها –بالأساس- على إرضاء بعض الجهات الخارجية رغبا أو رهبا، أو اقتناعا أعشى برؤيتها وصحة مناهجها، الشيء الذي يكاد يغيب معه المنطلق الصحيح، والسبيل الأقوم للنهوض بأوضاع الأسرة المغربية..