المقاومة السنية العلمية للفلسفة اليونانية -خلال العصر الإسلامي-

قلّ تراث أهل السنة في نقد الفلسفة اليونانية والرد عليها، فما هي أسباب ذلك؟
الأسباب كثيرة ومتداخلة، أهمها أربعة أسباب، أولها اعتقاد طائفة من علماء أهل السنة أن السكوت عن شبهات المتكلمين والفلاسفة، هو أحسن وسيلة للرد عليها، لأن الرد عليها قد يرفع من شأنها ويزيد في انتشارها. وهذا الرأي يُستنتج من قول ابن قتيبة الذي ضاق ذرعا من الذين سكتوا عن الرد على خصومهم. وموقف هؤلاء قد يكون صحيحا إلى حد ما، لكنه لا يصلح في كل الأحوال، ومع كل الناس، لأن مقالات المتكلمين لا تُعارض بالسكوت، والشكوك، ولا تُداوى بالوقوف على حد قول ابن قتيبة.
وثانيها اكتفاء طائفة منهم بالمعارضة المجملة للفلسفة اليونانية، دون الردّ المفصل على أصولها وجزئياتها؛ اعتقادا منهم أن موقفهم هذا كاف للردّ عليها ووقف انتشارها، خاصة وأنها تتعارض مع كثير من أصول دين الإسلام، وهذا -في اعتقادهم- كاف لمقاومتها والحد من انتشارها. وموقفهم هذا صحيح إلى حد كبير، يُقنع كثيرا من أهل العلم وعامة الناس، لكنه لا يُقنع أناسا آخرين من المختصين والمتفلسفين والمرتابين والمشكاكين، ومرضى القلوب والعقول.
وثالثها أن بعضهم لم يكن تكوينه العلمي يسمح له بالتوسع للردّ على أصول الفلسفة وجزئياتها، لقلة زادهم العلمي في العلوم الشرعية والعقلية.
ورابعها نفور الكثير منهم من الفلسفة وعلوم الأوائل، لاختلاطها بالسحر والتنجيم، والشركيات والوثنيات القديمة، ولمعارضتها لكثير من حقائق الدين، جعلهم ينفرون منها، ويكتفون بذمها والتحذير منها، دون التوسع في الردّ العلمي عليها.
وأما الملاحظة الثانية، فهي أن تصنيف الكتب للردّ على الفلسفة اليونانية ورجالها لم يكن مقتصرا على أهل السنة وحدهم، وإنما شاركت فيه أيضا طوائف أخرى، من المعتزلة والشيعة وغيرهم.
ويتبين مما قلناه عن تصنيف السنيين للكتب لمقاومة الفلسفة اليونانية ورجالها، هو أمر ضروري، ووسيلة في غاية الأهمية، مكنتهم من توصيل فكرهم وردودهم على تلك الفلسفة، إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي في حياتهم وبعد مماتهم.
وأما بالنسبة لدورهم -أي علماء أهل السنة- في التحذير من الفلسفة -كوسيلة لمقاومتها- فقد كانت لطائفة منهم تحذيرات ومواقف حازمة في النهي عن مطالعة كتب الفلسفة، فمن ذلك أن القاضي أبا المعالي محمد بن الزكي الدمشقي (ت698 هـ)، كان ينهي الطلبة عن الاشتغال بكتب المنطق وعلم الكلام، ويمزق مصنفات من وجد عنده شيئا من ذلك. وكان الشيخ أبو عمرو بن الصلاح الشافعي الدمشقي لا يُمكن أحدا في دمشق من قراءة المنطق والفلسفة.
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية عن كتب الفلسفة اليونانية، أن الغالب عليها الباطل، بل الكفر الصريح. وقال عنها الحافظ شمس الدين الذهبي: من ابتغى منها الهدى ضل وحار، فالحذر الحذر، واهربوا بدينكم من شُبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز فليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إليه في الثبات على الإسلام؛ وعلى من اُبتلي بمطالعة مصنفات الفلاسفة فليستغفر الله تعالى، وليلتجئ إلى التوحيد والدعاء بالعافية في الدين.
وأما الكتب الفلسفية التي حذر منها علماء أهل السنة فهي تشمل كل كتب الفلسفة، أشهرها كتابان، أولهما رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، وهو مصنف مكون من 51 رسالة، ضم مقالات الفلاسفة في الطبيعة والإلهيات، وما أخذوه من دين الإسلام ومذاهب الشيعة، ألفه طائفة من أهل الفلسفة، كزيد بن رفاعة، وأبي محمد النهرجوري.
وقد حذّر الحافظ شمس الدين الذهبي من مطالعة هذه الرسائل، وذكر أن أبا حامد الغزالي -في مرحلة تفلسفه- كان يحب النظر فيها، وهذا -في نظر الذهبي- داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال. ووصف شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية هذه الرسائل بأنها: رسائل إخوان الكدر لا الصفا. وقال: إن كُتابها هم من المشركين الصابئة، القرامطة المتفلسفة، وأنهم ليسوا من ملة الإسلام، وأنهم ذكروا في رسائلهم كثيرا من الأكاذيب والمخالفات الشرعية، كزعمهم أن القرآن ليس بكلام الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *