جميل جدا أن يدافع المرء عن الحرية ويسعى إلى إرساء مبادئها، وتشييد صرحها، وإيصال منافعها إلى الناس، ففي سبيل التمتع بالحرية قامت ثورات وحروب، وسجن خلق كثير وأعدم آخرون، لكنه يجب علينا ابتداء أن نحدد مفهوم الحرية التي ندافع عنها، أهي الحرية التي حدد مفهومها (جون ستيوارت مل) حين قال أن الناس: “أحرار فيما يفعلون شريطة ألا يؤدي تصرفهم إلى إلحاق الأذى بالآخرين”، أم هي الحرية التي تقتضيها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) بنفي جميع أنواع العبودية والخضوع لغير الله عز وجل، ومنع اتخاذ أرباب دون الله سبحانه {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}.
يبدو جليا من خلال ما يجري على الساحة الوطنية أن جل المدافعين عن الحقوق والحريات ذوي التوجه العلماني يتبنون مفهوم (جون ستيوارت مل) للحرية، ولا يهمهم أبدا ما يقتضيه هذا المفهوم من مخالفة للدين أو القيم؛ ولا للثوابت أو التاريخ أو الأعراف..، فمشروعهم الفكري مؤسس على هذه العقيدة التي تعد بالنسبة لهم من الثوابت التي لا يجوز المساس بها أو الطعن فيها. وفي سبيل الدفاع عنها والذود عن حياضها يوالون كل من دان بهذا المفهوم للحرية؛ ويعادون كل من خالفهم في ذلك.
وليس الأمر مقتصرا عندهم على مفهوم الحرية فحسب؛ بل يتعداه إلى العديد من المفاهيم الأخرى التي يفسرونها خارج النسق الذي يعيشون فيه والعقيدة التي يدين بها أفراد المجتمع الذي ينتمون إليه.
فدغمائيتهم العقائدية والأيديولوجية؛ وتحليلاتهم المادية المفعمة حتى الثمالة بنزعة ماركسية؛ تدفعهم إلى القفز على الواقع وطمس الحقائق، وتجعلهم يناصبون العداء لكل من خالفهم؛ خاصة أبناء الحركة الإسلامية الذين يحملون هم نصرة الشريعة والدفاع عن أحكامها ومبادئها.
ولتحقيق هذا الهدف؛ وعملا بالقاعدة الميكيافلية (الغاية تبرر الوسيلة)؛ تنكر العلمانيون لمبادئهم والشعارات الجوفاء التي يرفعونها؛ ولجؤوا إلى التطرف والإرهاب لإقصاء وإبعاد الآخر الإسلامي، وأصبح الدور الذي يضطلعون به في أي مجتمع تواجدوا به هو القيام بدور شرطي الأفكار؛ والسعي إلى الإكثار من محاكم التفتيش الجديدة التي تحتمي بالعقلانية والتنوير؛ تماما كما وصفهم بذلك رفيق دربهم تركي علي الربيعو في كتابه الحركات الإسلامية. (انظر العلمانيون العرب ص:352؛ للباحث مصطفى باحو).
فـ”مارس المثقفون ديكتاتوريتهم الفكرية أو عنفهم الرمزي باسم الحقيقة أو الحرية أو تحت شعار الديمقراطية” (أوهام النخبة: علي حرب).
ومن عجيب ما انتقد به العلماني علي حرب إخوانه قوله إنهم: “طالبوا بالحرية ليمارسوا الاستبداد، ويتعاملون مع العلمانية بعقلية لاهوتية، ومارسوا العقلانية بصورة خرافية، وتحول العلمانيون إلى مجرد باعة أوهام، فكم من مطالب بالحرية يتعاطى مع هذا الشعار بصورة إمبريالية، وكم من ساع إلى تحقيق العقلانية يجعلنا نترحم على السلفية”. (أوهام النخبة 98-99، الممنوع والممتنع 181).
فحال العلمانيين أنهم تقدميون مظهرا لكنهم رجعيون معيشة وسلوكا وتطرفا، يسعون إلى تحرير البشر من عبودية الأديان -زعموا-، في حين أنهم يتعاملون مع فكرة التقدم كديانة حديثة يدينون بها، قد عصموا ماركس ولينين وماو وأقاموا معهم علاقات لاهوتية تقوم على العبادة والتقديس. (علي حرب: أوهام النخبة 122).
يتنكرون للمطلق الديني؛ في حين يثبتون محله مطلقا جديدا يحمل هوية اللادينية والمذهب العلماني.
فحقيقة أمر النخبة العلمانية في العالم العربي أنهم مستلبون فكريا؛ مقلدون عمليا؛ عاجزون عن الإبداع والابتكار. مشروعهم الفكري قائم على تقليد التجربة العلمانية الغربية نحو القذة بالقذة؛ سواء في تعاملهم مع النص الديني الذي يقلدون فيه المستشرقين، أو السلفية التي يجعلونها دائما تنتمي إلى الماضي وتجذب الفكر والمجتمع إلى الوراء، أو التدين عموما الذي لا يقبلون به إلا في إطار السلوك الفردي كما هو الأمر في القارة العجوز؛ إلى غير ذلك من الأمور.
وقد عبر عن حالهم وواقعهم بنزاهة ووضوح علماني آخر يدعى إلياس قوسم فقال في كتابه رؤية معاصرة لعلوم القرآن: “المفكر الحديث لم يجد ذاته؛ فراح يبحث عنها عند الآخر، فتبنى فكره وأقانيمه وأطروحاته ظنا منه أنه اكتشف ذاته والحال أنه أهدرها باتباعيته له، فهو حينما قام بتصفية حساباته مع الكنيسة فعل المفكر العربي مثله من خلال دراسته للنص القرآني”.
هكذا هو حال العلمانيين العرب والأمازيغ عموما؛ فتواجدهم داخل مجتمعاتنا يحول دون نهضتها ويعرقل مسيرتها ويهدر طاقاتها وأوقاتها؛ ولك أيها القارئ الكريم أن تتخيل الأوقات التي تهدر والجهود التي تبذل والأموال التي تصرف في سبيل صد عدوانهم وكف أذاهم عن مجتمعاتنا؛ فعالمنا العربي والإسلامي لم يجن من ورائهم إلى التخلف والصراع الداخلي والارتكاس الحضاري والانحطاط الأخلاقي.
وقد كشفت التجربة أن مذاهبهم المادية وأطروحاتهم الفكرية التي اقترنت بدخول الاحتلال إلى بلادنا؛ فشلت فشلا ذريعا في اختراق العالم الإسلامي وتغيير عقيدة المسلم وبنيته الفكرية، وقد عبر علي حرب عن هذه الخيبة بقوله: “لا مبالغة في القول بأن المثقفين العرب دعاة الحرية والثورة والوحدة والتقدم والاشتراكية والعلمانية كانوا قليلي الجدوى في مجريات الأحداث والأفكار، فتاريخ تعاملهم مع قضاياهم ومع الواقع يشهد فشلهم وهامشيتهم.. إنهم مارسوا أدواتهم التحريرية أو التنويرية بعقلية سحرية وبآليات طقوسية” (أوهام النخبة 42).
أما ادعاؤهم أنهم أصحاب مشروع حضاري سيوقظ الأمة من سباتها ويخرجها من تخلفها؛ فمجرد تخرصات ووساوس شيطانية؛ كشفت الأيام قبل الوقائع زيف هذه الدعوى.
بل أكد العلماني علي حرب في أوهام النخبة أنه لا يوجد علماني واحد أنتج فكرا ذا أهمية حول المجتمع العربي والبشري، وقال: “إننا لا نجد مثقفا عربيا واحدا نجح في الكلام بصورة جديدة غنية أو فريدة. (أوهام النخبة 102-116).
هذا هو حال العلمانيين في بلادنا أصحاب شعارات جوفاء ومشاريع وهمية وعقلية تسلطية.
وما أن اندلع الربيع العربي حتى ثارت المجتمعات على جبروتهم؛ وتمردوا على شرطة الأفكار الذين يعدون على الناس أنفاسهم؛ ويضطهدون حرياتهم؛ ويحجرون على الجماهير الغفيرة باعتبارها أكثرية متخلفة تؤمن بالغيبي ويؤثر فيها الخطاب الشعبوي؛ ولا تعير اهتماما لصوت العقل المجرد!
فأي اضطهاد أفظع من هذه؟
وأي ديكتاتورية فكرية هاته التي يسعى أصحابها إلى فرض المنطق الفرعوني البائد (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)؟
باختصار إنها دكتاتورية الحرية العلمانية الرجعية الظلامية.