ما ذل الشرق وانقطعت صلته بينبوع قوته، ومادة حياته إلا يوم جهل الناطقون بالضاد قدر أنفسهم، ونسوا رسالتهم العُلويةَ التي كانوا بها ملح الأرض؛ فرفعوا يدهم عن دفة السفينة، وتعطلت ألبابهم عن هداية القافلة؛ وهنالك استعجم الإسلام.
ولا تعود إلى الشرق قوتُه وحياته إلا إذا عاد إلى اغتراف إيمانه المحمدي من ينبوعه الأول من بين الصخور التي انفجرت عن معينه، وصفَّق عليها برحيقه السَّلْسل.
ولا يكون ذلك إلا إذا اشتركت في حمل مشعله سواعدُ العرب، وسُمع في حُداء صوت أَبْيِنَاء العرب.
بالإسلام يلم الشرق شعثه، ويستعيد قوته، وتنمو فيه أخلاق الرجولة، ويتأهل لمشاركة الأمم في حمل عبء الحضارة، واحتلال المحل الشريف من صف القيادة.
وإذا دبت في الإسلام روح الحياة، فعاد إلى ما كان عليه من صفاء وبهاء، وصراحة في عصر السعادة وفي أيام التابعين فستجد فيه الإنسانية دواءها من أوصابها، وسيتقي به البشر طغيان القوميات الذي يتمخض بمذبحة جهنمية تحترق بها الأرض.
وإذا بقيت منها بقية بعد الحرب المقبلة فستستعد لشر منها.
وإذا أبطأ على الناس شر القوميات وملاحمها فسيكتسحهم وباء الشيوعية الذي يتغلغل في أحشاء الأمم، وتقاومه الأمم بالعصبيات الحقودة الباغية.
وهكذا يستشفي الناس من داء بداء، ما لم يهتدوا إلى الإسلام، ويستشفوا به.
وكيف يهتدون إلى الإسلام والمسلمون واقفون في طريقه يصدون الأمم عنه بمخازيهم، وجرائمهم، وضعفهم، ونفاقهم، وشحهم، وحسدهم، وشحنائهم، وكذبهم على الإسلام بأنهم أهله ودعاته؟!
تجربة جربها آباؤنا مرة يوم باعوا نفوسهم للهداية المحمدية، ووقفوا عليها مداركهم وأفئدتهم وسواعدهم ونقودهم وأسلحتهم، وسروا على ضوئها إلى مقاصدهم، ورجعوا إلى ميزانها في تقدير الأمور، فنجحت تلك التجربة النجاح كله، وما لبثوا أن رأوا النفوس التي باعوها لله -وكانت نفوس رجال من عامة الناس- عادت إليهم وهي نفوس ملوك، ورأوا مداركهم التي وقفوها في سبيل الله صارت من أغزر ينابيع الحكمة، وأفئدتهم التي عمروها بالإيمان بالله أهَّلتهم لاقتحام العقبات، واختراق الآفاق، وسواعدهم التي حملوا بها ألوية الإسلام إلى أمم الأرض تقدمت أمم الأرض لمصافحتها ومسالمتها، ونقودهم التي بذلوها لإعلاء كلمة الحق عوضهم الله منها كنوز كسرى وقيصر، وأسلحتهم التي جردوها لنصرة اليقين غدت ملاذ العز، وعنوان الفوز، ونقمة الله على الظالمين.
وبينما كان آباؤنا يجربون افتتاح كنوز السعادة بمفتاح الإيمان المحمدي كان الدهر يجرب مواهبهم، ويقيس طول باعهم، ويسبر غور أخلاقهم إذا انطوت أفئدتهم على ذلك الكنز؛ فوجدهم أمة ضربت الرقم القياسي في الحكمة والحكم، وفي الفراسة والفروسية، وفي الرفق وحسن الارتفاق.
وقف الحكيم الفرنسي غوستاف لوبون يراقب بعض ما استطاع أن يراقبه من تصرفاتهم في أدوار التاريخ، فهتف بملء فيه يقول: ما عرفت الإنسانيةُ فاتحاً أحكم ولا أعدل من العرب.
تركوا وراءهم في آفاق الأندلس من بدائع الفن، وآيات العمران، وآثار الحضارة ما يشهد لهم بأنهم أدق الأمم حسَّاً، وألطفهم ذوقاً، وأبعدهم نظراً، وأقلهم غطرسةً ودعوى.
تركوا وراءهم في مكتبة الإنسانية معارف في كل ضرب من ضروب الحكمة والتفكير والعلم؛ عجزت جهالة أعدائهم من التتار والصليبيين والأسبانيين عن تبديدها في مياه دجلة، ونيران طرابلس، والقدس، ومحاكم التفتيش؛ فبقيت من بقاياها أثارة لا تزال مطابع المستشرقين في أوربا، وهمم الشرقيين في الهند وإيران وبلاد الغرب تجدُّ في نشر الألوف منها في أكثر من مائة عام، وكلُّ ما نشر منها لا يساوي قطرةً من بحر علم العرب الذي لا يزال مطوياً في مخطوطات دور الكتب الشرقية والغربية، مما عرفه الناس ومما لم يسمعوا به.
وتركوا وراءهم هداية لو تجرد الغرب من تعصبه الأعمى للكنيسة، وأخذ بهداية الإسلام لشفاه الله من كل أمراضه، ولتمتع بالسعادة التي يبحث عنها في الظلام ولا يجدها.
بل لو تجردنا نحن أحفاد العرب من جهالتنا الكسيحة، ووطَّنا النفوس على العمل بقواعدها، وعملنا على إحياء تكاليفها الاجتماعية التي لا تكون الأمة أمة إلا بها لظهرت حقيقة الإسلام في سيرتنا وسريرتنا، وتجلت محاسنه في أعمالنا ومعاملاتنا.
ويومئذ نكون حجة للإسلام لا عليه، ومبشرين به لا منفرين عنه، وقبل أن ينتفع الإسلام بنا ذيوعاً وانتشاراً ننتفع به نحن تقدماً واعتلاء.
هنالك تعرف الأمم الإسلام بنا، وتعرفنا بالإسلام، وهنالك تقبل شعوب الأرض على الإيمان به أمة بعد أمة؛ كما يقبل الأفراد الآن على الدخول فيه واحداً بعد واحد.
في أعناقنا -نحن العرب- جريمةُ إعراضِ أممِ الأرض عن معرفة هداية الإسلام، وفي أعناقنا -نحن العرب- جريمة خذلاننا وضعفنا واستخذائنا لكثير من أمم الأرض، حتى اليهود.
وما دام ناشئ الفتيان منا ينشأ على حب الشهوات، والظنِّ بأن الإسلام دين لا فائدة له في سعادة الدنيا، ويجهل نفسه بأنه من سلالة أمة اختصها الله بالرسالة إلى الإنسانية لو أهلت نفسها لأدائها لتغيرت الأرض بذلك غير الأرض؛ ما دام ناشئ الفتيان منا ينشأ على ذلك فبطن الأرض أولى له من ظهرها.
نحن العرب نصلح لأن نكون خير الأمم أو شر الأمم، أما التوسط بين ذاك وهذا فلم يقع في دور من أدوار التاريخ.
نكون في سبات عميق، وفي غفلة تأخذ علينا السبل؛ فإذا استيقظنا قفزنا قفزتنا من سَمْت القدم إلى سمت الرأس، وأصبحنا ملح الأرض، وتاج الإنسانية، وقادة الدنيا، ولكن كيف نستيقظ، ومن الذي يوقظنا؟
كنت في يأس أغالط نفسي فيه لأسعد بالأمل، كنت أعلم أن اليقظة يجب أن تكون في مصر، وأن دعاتها لابد أن يكونوا من مصر، ولكن كلما قيلت كلمة (عرب) فهم القراء في مصر أن المَعْنِيَّ بهذه الكلمة غيرهم، وأن العربي لا يكون إلا أعرابيّاً حافي القدمين، فلما قرأت في أسبوع واحد كلمة الأديب الكبير الأستاذ الشيخ عبد الله عفيفي التي عنوانها (وطن وعشيرة) وقد اقتطفت باقة منها في هذا الجزء من الحديقة، وقرأت فقرات من محاضرة الأستاذ عبد الرحمن عزام عن (وحدة الثقافة الإسلامية)، ورأيت جريدة الاستعمار البريطاني (المورنن بوست) في جزع من أن تعرف مصر أنها عربية، فتهب لإيقاظ العرب تَحوَّل حينئذ يأسي الذي كنت أغالط نفسي فيه إلى أمل كنت أعلل نفسي به، ولكن الغطيط أعظم من أن يؤثر فيه قلم كاتب واحد، ونبرات صوت خطيب واحد.
ولابد من إفراغ هذا الإيمان في قلوب رجال آخرين من أهل الاستعداد للخير، ممن لم تكن لهم سابقة في الإلحاد، والتفرنج، وحب الشهوات، فعن هؤلاء يجب أن نبحث، وفي قلوب هؤلاء يجب أن نبث هذا الإيمان، ثم يهتف المؤذنون بصوت واحد بحي على الفلاح؛ حتى يستيقظ الناطقون بالضاد جميعاً ويعرفوا طريقهم، ويهبوا لأداء رسالتهم في العالمين.
للعلامة محب الدين الخطيب
الحديقة 12/ 54-60، عام 1353هـ.