ليس الظريف بكامل في ظرفه حتى يكون عن الحرام عفيفا
فإذا تعفف عن معاصي ربه فهناك يُدعى في الأنام عفيفا
العفة خلق حميد، محبب إلى النفوس كلما ذكر، عزيز وجوده إلا مع أصل كريم، أو إنسان شريف، بيد أن عُرْف زماننا قد اختصره في أحد معانيه، وهو شرف الأنثى وترفعها عما لا يليق من الفاحشة وسبلها، وهو صميم معنى العفة والعفاف، إلا أن له معاني أخر سأحاول ذكرها، وذكر ما يختص بالعفة من القرآن والسنة والمأثور من كلام العرب.
معنى العفة
العفة في معاجم اللغة تدور حول أصل واحد وهو الكف والامتناع، جاء في القاموس المحيط: عَفَّ عَفّاً وعَفافاً وعَفافةً، بفَتْحِهِنَّ، وعِفَّةً بالكسرِ، فهو عَفٌّ وعَفيفٌ كَفَّ عَمَّا لا يَحِلُّ ولا يَجْمُلُ، كاسْتَعَفَّ وتَعَفَّفَ، ج أعِفَّاءُ، وهي عَفَّةٌ وعَفيفةٌ، ج عَفائفُ وعَفيفاتٌ. وأعَفَّهُ اللّهُ. وتَعَفَّفَ: تَكَلَّفَها.
العفة في القرآن
لم يرد في القرآن إلا الاستعفاف والتعفف، أما الاستعفاف ففي سورة النساء في شأن من كان يكفل يتيما ذا مال، ولم يكن محتاجا إلى أن يأكل من مال اليتيم: [ومن كان غنيا فليستعفف]، وفي شأن من ليست له القدرة المادية على الزواج فأمرهم بعدم اللجوء إلى ما حرمه الله فقال في سورة النور: [وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله] وفي أمر القواعد من النساء اللواتي يجوز لهن عدم وضع الخمار على جيوبهن فأرشدهن مع أنهن غير مرغوب فيهن، إلى الأكمل وهو الاستتار، فقال في سورة النور أيضا: [وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ].
العفة في الحديث
وردت العفة في السنة في أحاديث أشهرها: “أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طُعمة” رواه أحمد. وفي صحيح مسلم: “اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى”. وقوله: “بروا آباكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف” رواه الترمذي، وروى أيضا: “عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لموالية”، وورد أيضا قوله: “من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة، ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة” رواه بن ماجة.
ويرى ابن منظور أن لفظ العفة ذو معنيين، معنى الكف عن الحرام، ومعنى الصبر. وشرح ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: “ومن يستعفف يعفه الله” قائلا: “الاسْتِعْفاف طلَبُ العَفافِ وهو الكَفُّ عن الحرام والسؤال من الناس أَي من طلب العِفّة وتكلَّفها أَعطاه اللّه إياها وقيل الاستعفاف الصبْر والنَّزاهة عن الشيء ومنه الحديث اللهم إني أَسأَلك العِفّة والغِنى”.
يتبين مما سبق أن العفة يمكن أن يتصف بها الرجل والمرأة معا، ويتأرجح معناها حسب ما تعلقت به، فإن كان المتعلق امرأة انصرفت غالبا إلى كف نفسها عن الحرام، وصيانة شرفها عن الابتذال، وكذلك إذا تعلقت بالرجل، فالمقصود كفه عما يؤدي إلى الفاحشة وانتهاك الأعراض. وقد تأتي بمعنى الامتناع عن سؤال الناس والتزام القناعة. إلا أنها يمكن أن يتسع معناها حتى يشمل كل خلق حسن، والكف عن كل حرام.
سيد العفيفين
قد ذكر الله سبحانه وتعالى عن يوسف الصديق من العفاف أعظم ما يكون؛ فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره، فإنه كان شابا والشباب مُركّب الشهوة، وكان عزبا ليس عنده ما يعوضه، وكان غريبا عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحي منهم أن يعلموا به فيسقط من عيونهم، فإذا تغرب زال هذا المانع وكان في صورة المملوك والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر، وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك، وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كلفة تعرض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة، وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار، لتعلم عفافه من فجوره، وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون، وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة، وأتته بالرغبة والرهبة، ومع هذا كله فعف لله ولم يطعها، وقدم حق الله وحق سيدها على ذلك كله، وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف كانت تكون حاله”. ابن القيم روضة المحبين.
مواقف صحابية
عثمان بن أبي طلحة رضي الله ومرافقته لأم سلمة رضي الله عنها في هجرتها. وذلك لمّا فرق قومها بينها وبين ابنها وهاجر زوجها إلى المدينة. قالت: فمكثت أيامًا أبكي أخرج إلى خارج داري ثم أعود إليه، فقام رجل من بني المغيرة رآني على حالي فرقّ لي، وقام إلى قومي وقال: ألا تخرجوا هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وابنها، قالت: فتركوني أهاجر إلى المدينة وأعطتني بنو أسد -قوم زوجها- ابني فأخذت ابني فوضعته على حجري وركبت بعيري وسرت وليس معي أحد إلا الله، حتى إذا أتيت إلى التنعيم -موضع قريب من مكة تجاه المدينة- لقيني عثمان بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ فقلت: أريد المدينة، فقال: أو ما معك أحد؟ فقلت: لا؛ قال: مالك من مترك؟ (أي كيف أتركك تسافرين وحدك). فأخذ بخطام بعيرها فسار معها، قالت أم سلمة: فما رأيت قط رجلا أكرم في العرب من عثمان بن طلحة، كان إذا جئت إلى مستراح أوقف بعيري وتأخر عني فإذا نزلت عن بعيري أخذ ببعيري وتأخر بالبعير فربطه في الشجرة واضطجع تحت الشجرة، فإذا حان موعد الرحيل جاءني بالبعير فترك البعير وتأخر عنّي، فإذا ركبت البعير جاء وأخذه وسار بي على ذلك أيامًا متتالية حتى قرب من المدينة فرأى قرية عمرو بن أبي عوف فقال: يا ابنة أبي أمية، زوجك في هذه القرية، فقالت: فدخلت القرية فوجدت أبا سلمة، قالت أم سلمة -تحفظ الجميل لهذا الرجل-: فما رأيت رجلاً أكرم من عثمان بن طلحة قط في العرب.
مواقف من تراث العرب
– جاء في محاضرات الأدباء للأصفهاني: اجتمع بعض العرب بامرأة فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة ذكر معاده، فاستعصم وقام منها وقال: إن من باع جنة عرضها السماوات والأرض بمقدار فتر بين رجليك لقليل البصر بالمساحة.
– وكان سليمان بن يسار مفتي المدينة من أحسن الناس وجهاً، فدخلت إليه امرأة فسامته نفسها فقالت: إن لم تطاوع لأخبرن الناس أنك فعلت ولأفضحنك! قال: نعم. وتركها في البيت وخرج وفرّ.
– قال أعرابي: خرجت في ليلة بهيمة فإذا أنا بجارية كأنها علم، فراودتها فقالت: أما لك زاجر من عقل إن لم يكن لك ناه من دين؟ فقلت: إنه لا يرانا إلا الكواكب! فقالت: وأين مكوكبها؟
– ومما قيل العفة وأصحابها:
خلوت بها ليلاً ولم أقض حاجةً … ولست على ذاك العفاف بنادم
قال المتنبي:
عفيفٌ تروق الشمس صورة وجهه … فلو نزلت يوماً لحاد إلى الظل
معاول هدم العفة
– تسخير الإعلام بأنواعه من مقروء ومسموع ومشاهد لبث ما يثير مكامن الشهوة ويخمر العقل ويفسد الروح مما يفسد على الناس عفتهم ويضعفها.
– الإعجاب بنظم الغرب وتقاليده الإباحية، التي كسرت كل ستر وهتكت كل حياء، والانبهار بحضارته ومدنيته، مما يدفع بكثير من الناس إلى السفر إلى مواقع تتجلى فيها إشاعة الفاحشة ونشر بواعثها ومثيراتها من نشر للأغاني الساقطة والأفلام الآثمة والمشاهد الفاضحة والروايات الساقطة.
– تعرية المرأة وتحريرها واستعبادها وإخراجها من بيتها للتمثيل والإبداع في مسابقات الجمال وعروض الأزياء والفنون الجميلة وغيرها مما يجلب الفساد والإفساد للمجتمعات.
– تيسير المحرم وتكثير سبل الغواية وطرق الفاحشة وتنوعها في الأسواق والطرقات والمحلات والمراكز الضخمة والشركات الهائلة إلى غير ذلك.
– التساهل من المسلمين في إدخال الرجال والخدم في البيوت واختلاطهم في المراكب والمساكن وأماكن الترفيه مع النساء والفتيات وضعاف النفوس.
– الأسواق العامة وما فيها من اختلاط وتبرج ودعوة إلى الإثارة والإغراءات المحرمة من كشف للوجه وتجميل له وإبداء لمفاتن الجسد.
– الدعوة إلى حرية الفن والترويج له وكسر القيود أمامه وصرف طاقات وشباب وعقول الأمة لهذا العفن.
– وسائل ومنتديات الترفيه غير البريء كحفلات الموسيقى والرقص والغناء والمسارح الهابطة والنوادي المشبوهة ودور السينما الرديئة.
– معوقات الزواج من مغالاة في المهور واشتراط التكاليف الباهضة للحياة الزوجية والمبالغة في الشروط، وتعقيد قوانينه.
ومن الضروري أن تعرف الفتاة كما الرجل أن العفة والعفاف تبدأ من عفة الأفكار والعين والأذن واللسان وتنتهي عند عفة الفرج، والاحتفاظ بذلك التاج الثمين الذي منحه الله لها جزء لا يتجزأ ولا يستهان به من العفة المنشودة؛ حتى إن ذلك مطلب بات يسعى إليه الغرب ليعلم الفتاة ضرورة الاحتفاظ ببكارتها ليوم زفافها بعد أن ذاق مرارة التفريط.
أقوال الحكماء
– سمعتُ السَّرِيَّ، يقول: “أَرْبَعُ خصالٍ تَرْفَعُ العبدَ: العِلْمُ، والأدب، والأَمَانةُ، والعفَّةُ”. وكأن الأديب مصطفى صادق الرافعي تنبه لارتباط العفة بالأمانة فقال: “الرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها الناس عفة، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة؛ وهي في ضبط الروح لثلاث من الحواس: حاسة الدعة التي يقوم بها حظ الخمول، وحاسة اللذة التي يقوم بها حظ الهوى، وحاسة التملك التي يقوم بها حظ القوة”.
– وقال حكيم: العفة وسط بين رذيلتين الشره والخمود. والخير الحقيقي أربعة: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة.
وفي كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع: “قال الملك بيدبا: إني وجدت الأمور التي اختص بها الإنسان من بين سائر الحيوانات أربعة أشياء، وهي جماع ما في العالم، وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل. والعلم والأدب والروية داخلةٌ في باب الحكمة. والحلم والصبر والوقار داخلةٌ في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلةٌ في باب العفة. والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق داخلةٌ في باب العدل. وهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ”.
أحوال العرب مع المروءة
كانت العرب ترغب إلى امرأة عفيفة صبيحة، فإذا كانت بهذه الحال كانت الدرة المطلوبة كما قال أحدهم:
إنّ سُعدى لمُنية المُتمني جمعت عفة ووجها صبيحا
ومن عفتهم أنهم كانوا يستعملون الكنايات في الأشياء التي يستحى من ذكرها؛ قصداً منهم التعفف باللسان كما يتعفف لسائر الجوارح. ومن أحسن ما قيل في العفة على سبيل الكناية قول النابغة:
رِقاقُ النعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهُمْ … يُحَيَّوْنَ بالرَّيْحانِ يَوْمَ السَّباسِب
وتأمل ما أدب الله سبحانه وتعالى به عباده في قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ). فقرن عفة البصر بعفة الفرج، وكذلك يقرن عفة اللسان بعفة البصر. وفي التنزيل كنايات عجيبة عدل بها عن التصريح تنزيهاً عن اللفظ المستهجن كقوله عز وجل: (نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم). قال أبو عبيدة: هو كناية، شبه النساء بالحرث.
أسباب استعفاف الأعفاء
فصلها ابن القيم في روضة المحبين فجعل: “أقواها إجلال الجبار ثم الرغبة في الحور الحسان في دار القرار؛ فإن من صرف استمتاعه في هذه الدار إلى ما حرم الله عليه منعه من الاستمتاع بالحور الحسان هناك؛ قال صلى الله عليه وسلم: [من يلبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة] فلا يجمع الله للعبد لذة شرب الخمر ولبس الحرير والتمتع بما حرم الله عليه من النساء والصبيان ولذة التمتع بذلك في الآخرة فليتخير العبد لنفسه إحدى اللذتين، وليطب نفسا عن إحداهما بالأخرى، فلن يجعل الله من أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها كمن صام عنها ليوم فطره من الدنيا إذا لقي الله.
ودون ذلك مرتبة أن يتركها خوف النار فقط فإن تركها رغبة ومحبة أفضل من تركها لمجرد خوف العقوبة. ثم أدنى من ذلك أن يحمله عليها خوف العار والشنار. ومنهم من يحمله على العفة الإبقاء على محبته خشية ذهابها بالوصال. ومنهم من يحمله عليها عفة محبوبه ونزاهته. ومنهم من يحمله عليها الحياء منه والاحتشام له وعظمته في صدره. ومنهم من يحمله عليها الرغبة في جميل الذكر وحسن الأحدوثة. ومنهم من يحمله عليها الإبقاء على جاهه ومروءته وقدره عند محبوبه وعند الناس. ومنهم من يحمله عليها كرم طبعه وشرف نفسه وعلو همته. ومنهم من يحمله عليها لذة الظفر بالعفة؛ فإن للعفة لذة أعظم من لذة قضاء الوطر، لكنها لذة يتقدمها ألم حبس النفس ثم تعقبها اللذة، وأما قضاء الوطر فبالضد من ذلك. ومنهم من يحمله عليها علمه بما تعقبه اللذة المحرمة من المضار والمفاسد وجمع الفجور خلال الشر كلها”.
ولا يزال الناس يفتخرون بالعفاف قديما وحديثا، ويمدحون به، ويعانونه ويرون ذلك شرفا.
فهذه بثينة ومعلوم ما بينها وبين جميل من الحب؛ قيل لها: هل عندك من حيلة تنفسين بها وجده؟ فقالت: ما عندي أكثرمن البكاء إلى أن ألقاه في الدار الأخرى، أو زيارته وهو ميت تحت الثرى.
وقيل لعتبة بعد موت عاشقها: ما كان يضرك لو أمتعتيه بوجهك؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار وشماتة الجار ومخافة الجبار؛ وإن بقلبي أضعاف ما بقلبه غير أني أجد ستره أبقى للمودة وأحمد للعاقبة وأطوع للرب وأخف للذنب.
قال بعضهم:
أهوى الحسان وأهوى أن أجالسهم … وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان معصية … لا خير في لذة من بعدها سقر
وقال آخر:
إذا ما هممنا صَدَّنا وازعُ التقى … فولى على أعقابه الهمُّ خاسئا