نظم المتون الفقهية أسبابه وآثاره في الفقه الإسلامي من إعداد: الدكتور محمد أبوعام خطيب مسجد الخير -المحمدية-

تعد المنظومات في العلوم الشرعية نوعا من أنواع الشعر التعليمي، الذي بدأ بكرا في بدايات العصر العباسي . وقد نشأ فن النظم نتيجة للنشاط الذي عرفته الحياة العلمية في العراق فكان من آثاره: هذا اللون من الفنون الذي صاغ فيه الشعراء التاريخ والمعارف والأمثال والحكم والقصص الحيواني، وغير ذلك .
وقد بدأ النظم بمنظومات في علم الكلام . ويصعب تحديد أول منظومة في الفقه الإسلامي بدقة، نظرا لعدم استقرار المذاهب الفقهية آنذاك. غير أن أكثر الباحثين يشيرون إلى أن أول منظومة فقهية هي منظومة : (الصوم والزكاة) لأبان بن لاحق ، والتي مطلعها :
قصيدة الصيام والزكاة نقل أبان من فم الرواة
هذا كتاب الصوم وهو جامع لكل ما قامت به الشرائع
ثم بعد ذلك نشأت مرحلة جديدة، وهي مرحلة التطور الفقهي، بعد انتشار المتن، والشروحات واستقرار المذاهب الفقهية، ونتيجة لذلك برزت الحاجة إلى المنظومات، باعتبارها وعاء جديدا يضبط هذه المتون النثرية المختلفة، لسهولة تناولها، وعرضها، وحفظها .
ويعتبر العهد المملوكي من أهم العهود التي نما فيها الشعر التعليمي عامة، والشعر التعليمي الديني خاصة، لأن كثيرا من التراث العلمي، والفكري والفني قد دمر على أيدي التتار في هجمتهم الرهيبة على بلاد الحضارة فلا غرابة -إذن- أن يكون النتاج التأليفي بعد الكارثة مصبوغا بصبغة دينية أدبية، بغية تحصين الشريعة الإسلامية من جهة، ولأن النظم في هذا الميدان قد لا يحتاج إلى أصول ومراجع في بعض الأحيان .
ثم تتابعت الأعمال العملية على هذه المنظومات شرحا واختصارا وتهذيبا وتحشية وتقريرا أو زيادة على الأصل. ومن أمثلتها:
– الغرر البهية في شرح منظومة البهجة الوردية للشيخ زكريا بن محمد الأنصاري، ومعه حاشية الشيخ عبد الرحمن الشربيني، وحاشية الإمام ابن القاسم العبادي، مع تقريرات الشيخ عبد الرحمن الشربيني عليها .
– الدر الثمين والمورد المعين في المرشد المعين على الضروري من علوم الدين لمحمد بن أحمد بن ميارة المالكي، على نظم أبي محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر.
– غاية البيان شرح زبد ابن رسلان لشمس الدين محمد بن أحمد الرملي .
– فتح الرحمان بشرح زبد بن رسلان لأحمد بن أحمد بن حمزة الرملي .
– حاشية محمد الطالب بن الحاج، على ميارة على شرح المرشد المعين.
– الجواهر الزكية في شرح المنظومة الرحبية لأحمد بن ملا علي القاري.
وهكذا انتشر النظم عبر العصور إلى يومنا هذا، مما يؤكد الحاجة إلى مثل هذا النوع من العلوم، وأنه ليس من باب الترف الفكري كما يظن البعض.
 أسباب ظاهرة نظم المتون الفقهية
إن المتصفح للمنظومات الفقهية وشروحها تطالعه جملة أسباب يمكن أن تكون ساهمت في صياغة هذه الظاهرة، ومنها:
1- سهولة حفظ المتون الفقهية المنظومة: فطالب العلم يجد صعوبة في حفظ المتون الفقهية المنثورة، ولا يجد مثل هذه الصعوبة في حفظ المتون المنظومة، إذ أن النظم أيسر في الحفظ من النثر .
قال ناظم رسالة ابن أبي زيد القيرواني -الداه الشنقيطي-:
لكن لعسر حفظها المدارك منها خفية فكل تارك
مثلتها في كفتي ميزان درا وما الخبر كالعيان
لكن ينال حفظها بالنظر في شعرها المرغب المنفر
2- جمع الأحكام المتفرقة في كتب الأمهات، ونظمها في منظومة واحدة تجمع شتات هذه الأحكام في مكان واحد، فيحقق فيها طالب العلم بغيته ويجد فيها ضالته. فالنظم الفقهي يسير على طالب الفقه أخد الحكم منه بسهولة ويسر، والأمر الذي قد لا يتيسر في الشروح أو المتون الفقهية المنثورة .
3- صعوبة نسيان النظم الفقهي: والنظم الفقهي مع سهولة حفظه فإن مظنة نسيانه قليلة، فيبقى الطالب متذكرا له، والحق أن نسيان المحفوظ من أكثر الصعوبات التي يواجهها طالب العلم الشرعي، مما يلزمه استمرار المدارسة والمذاكرة، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى وقت كثير يحتاجه طالب العلم لمدارسة أمور أخرى، وربما أعاقه ذلك عن الرقي في مدارج التحصيل العلمي.
قال ناظم إحكام الأحكام:
إن النظم نظمته تذكرة وحيث تم بما به البلوى تعم قد ألم
وقد عقب الشارح قائلا: ليذكر العالم المنتهي ما نسيه أو سهى عنه، ويتبصر به المبتدئ يكفيه عما صرح به غيره .
4- طلب بعض الحكام والوزراء من العلماء نظما معينا في باب يحتاج إليه الناس فلا يسع العالم والحالة هذه إلا أن يجيب الأمير أو الوزير على طلبه. ومن أمثلة ذلك: أن الوزير جعفر بن يحيى البرمكي طلب من أبان بن لاحق أن ينظم شيئا في الزهد، فنظم أرجوزة الصيام والزكاة .
 الآثار الايجابية للمنظومات
لا شك أن هناك آثارا ايجابية للمنظومات الفقهية، ومن هذه الآثار:
– وجود بعض المسائل الفقهية التي ربما لا يعثر عليها في كتب الفقه التقليدي، فنجدها مبسوطة ومحررة في شروح المنظومات.
– الاستدلال على تحقيق المذهب بالإحالة على المنظومة، فكثيرا ما يستدل المؤلفون على تحقيق مذاهبهم بالإحالة على المنظومة، وذلك لتقوية رأي معين يرى المصنف رجحانه، مما يعد مؤشرا واضحا على القيمة العلمية التي تحظى بها المنظومة المحال عليها.
– كثرة النقل عن المنظومات في كتب الفقه المختلفة، فالمتتبع للتصانيف الفقهية المطولة كالشروح والحواشي، يلحظ كثرة واضحة في النقل عن المنظومات الفقهية، مما يمنح هذا النوع من التصنيف أهمية كبيرة، ويضعه في المكان اللائق به بين الفنون العلمية المختلفة.
– سهولة استحضار الأحكام الفقهية المنظومة عند الحاجة إليها.
– إن النظم هو وسيلة ناجحة للمحافظة على الثروة الفقهية التي قد تتعرض للضياع أو التخريب، فيكون نظمها أدعى لحفظها من أيدي العابثين، ولهذا فإن فن المنظومات قد ازدهر بعد هجمة التتار على بغداد وتدمير التراث الفقهي الإسلامي كما مرَّ معنا في نشأة هذا العلم.
– تنشيط حركة الفقه الإسلامي من خلال تتابع الأعمال العلمية على المنظومات، من حيث الشرح أو التحشية ونحوهما .
 الآثار السلبية للمنظومات
1- التناقض في الأحكام: قد يكون لإقامة الوزن أو القافية تأثير على مصنفي هذا الفن فيدفعهم أحيانا إلى بعض التناقضات في الأحكام، ومن أمثلة ذلك ما وقع للناظم ابن رشد، فقد ذكر في موضوع كراهة مسح الرأس، بينما ذكر سنيته في مكان آخر فقال لما عد سنن الوضوء:
ومسحه ثانية في الرأس والبدء من أوله في اللمس
وقال في موضوع آخر:
وليس في الممسوح إلا واحدة وتكره التي عليها زائدة
فقال الشارح: أي ليس في الممسوح إلا مسحة، والزائد عليها مكروه، وهو واضح. فأما ما هو معتمد عند الإمام مالك، فكراهة تكرار المسح. جاء ذلك في المعونة، حيث قال القاضي عبد الوهاب فيها: الفرض تطهير الأعضاء مرة، والفضل في تكرار مغسولها مرتين، ولا فضيلة في تكرار الممسوح كله .
2- تكرار الأحكام الفقهية: فقد يلجأ بعض نظام المتون الفقهية -أحيانا- إلى تكرار حكم كانوا قد ذكروه دون أن يكون في ذلك التكرار سبب ظاهر اللهم إلا أن إقامة الوزن والقافية ألجأته إلى ذلك.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره ناظم مقدمة ا بن رشد، حيث قال:
وقلل الماء وخلل اليدين وخلل الرجلين أيضا مثل ذين
وقال في موضع آخر:
والماء ما زاد على الكفاية فبدعة جاءت بها الرواية
فقال شارح المنظومة العلامة التتائي معقبا على شرح البيت الثاني: تقدم معنى هذا البيت في شرح قوله: وقلل الماء وخلل اليدين فلا فائدة في إعادته .
3- عدم الإحاطة بالأحكام الفقهية المختلفة للواقعة الواحدة: ولعل ذلك يرجع إلى تركيز الناظم على ضرورة إقامة الوزن والقافية على حساب الموضوع الفقهي. ومن أمثلة ذلك: ما وقع لصاحب منظومة المرشد المعين على الضروري من علوم الدين -ابن عاشر-، حيث غفل عن ذكر بعض الأحكام التي تتعلق بشروط وجوب الصلاة فقال:
شروط وجوبها النقا من الدم بقعة أو الجفوف فاعلم
فلا قضا أيامه ثم دخول وقت به حتما أقول
فعندما عد دخول الوقت من وجوب الصلاة لم يتكلم عن الوقت على الرغم من أهميته، وقد عقب الشارح قائلا: ولم يتكلم الناظم على الوقت، ومعرفته من المهمات، فلابد من جلب بعض ما يتعلق بذلك .
4- إعطاء حكمين مختلفين لشيء واحد: وذلك بأن يوصف نفس الشيء بالسنة تارة أو الوجوب أو بالفضيلة أخرى، مع أن السنن غير الفضائل، أو الرغائب لأن الفضائل والرغائب دون السنة في المرتبة.

ومن أمثلة ذلك: ما وقع لناظم مقدمة ابن رشد فقد اعتبر تخليل أصابع اليدين فرضا في موضع، وفضيلة في موضع آخر .
5- عدم التقيد بروايات المذهب، وذكر رأي الناظم دون النص على أنه رأيه واختياره: مع أن المعهود في المتون الفقهية الاقتصار على رأي المذهب وعدم التصريح باختيار المصنف، فغالبا ما يكون اختيار المصنف في المطولات، بل وفي كتب الخلافيات على وجه الخصوص، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ناظم إحكام الأحكام، فقال:
والمهر والصيغة والزوجان ثم الولي جملة الأركان
فاعتبر الصيغة ركنا عند المالكية، بينما هي شرط فقال: فالزوج والزوجة ركنان، والولي والصيغة شرطان، وقال إن الصيغة التي هي إحدى أركان العقد عند الناظم هي كل لفظة ينطق بها الولي ويدل على التأييد .
6- عدم السير على منهج واحد في حكاية الاتفاق والاختلاف داخل المذهب: فربما حكى الاتفاق على مسألة فيها خلاف مشهور، بينما نراه يحكي خلافا يسيرا في مسألة أخرى .
7- الحشو وذكر مالا علاقة له بالفقه في النظم: ومن أمثلة ذلك ما وقع لناظم مقدمة ابن رشد حيث قال عند عد فرائض الوضوء:
فروضه قد وردت ثمانية أقضي بها في السر والعلانية
فقد عقب الشارح فقال: وقوله وردت ثمانية أي معدودة في كلام أهل العلم بعضها مختلف فيه كما يأتي بيانه، والشطر الثاني حشو في كلام الناظم .
8- عدم الدقة في وصف الأحكام الفقهية: فلا ربما ألجأت القافية أو الوزن أو ضرورة النظم المصنف إلى التساهل في إعطاء صفة لبعض الأحكام الفقهية، كالخلط بين الشروط والأركان .
9- الاختصار الشديد الذي يقرب من الألغاز: فأحيانا لا يكون النظم مفهوما؛ وهذا الأمر تشترك فيه -في الغالب- المتون المنظومة مع المتون المنثورة وذلك لأن هم المختصر سواء أكان ناظما أم ناثرا يكون منصرفا إلى جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، الأمر الذي يضطره في بعض الأحيان إلى الألغاز. ومن أمثلة ذلك: ما ذكره ناظم إحكام الأحكام حينما تحدث عن أقل الصداق وأكثره فقال:
وربع دينار أقل الصداق وليس للأكثر حد ما ارتقى
وقدرها بالدرهم السبعيني نحو من العشرين في التبيين
وينبغي في ذلك الاحتياط بخمسة بقدرها تناط
وقد علق شارح المنظومة قائلا: يعني أن قدر الثلاثة الدراهم الشرعية بالدرهم السبعيني المنسوب على عقد السبعين، أي سبعون منه أوقية زمن الناظم، خمسة دراهم وربع، هذا على مقتضى الحساب، وما ذكره الناظم غير مفهوم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *