تركيا الإسلامية (تتمة) ذ.إبراهيم أبو الكرم

استطاع حزب العدالة والتنمية أن يكسب دعم كل من مجتمع الأعمال التجارية وفئة المثقفين الليبراليين والطبقة الوسطى للحزب بوضعه الإصلاحات الديمقراطية فوق قمة أولوياته، كما قام بعدة إصلاحات في الفترة من 2002 إلى 2006؛ كان أهمها هذه الإصلاحات التي كانت تهدف إلى إحداث توافق داخل النظام القضائي وتوافق في العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمدنيين، ومنها توفير التأمين الصحي والمساكن للمواطنيين، وزيادة المنح الطلابية، وتوزيع المواد الغذائية بالمناطق المحتاجة وتحسين البنية التحتية بالمناطق الريفية الفقيرة، حقوق الأقليات من الأكراد وغير المسلمين على قمة أجندة الحزب.
ثم كسب الحزب رضى غالبية الشعب، بعد أن نجا بالدولة من شبح الأزمة المالية التي حلت بالعالم عام 2001، وكان من شأن كل هذه الإنجازات أن تثير حفيظة العلمانيين، فتصاعدت حدة العداء بين الفريقين العلماني والإسلامي في الفترة بين 2006 و2008 خاصة بعد إصلاحات تضمنت إصدار قوانين برفع الحظر على ارتداء الزي الإسلامي بالجامعات، ووقف التمييز بين خريجي المدارس الإسلامية والمدارس الأخرى…
بينما وصل الخلاف بين المؤسسة العسكرية والحزب إلى ذروته بعد أن أعلن الحزب عن نيته ترشيح وزير الخارجية “عبد الله جول” لانتخابات الرئاسة ليقوم الجيش بشبه انقلاب تحت ذريعة الدفاع عن النظام العلماني، والذي جاء رد أردوغان عليه بتعجيل الانتخابات البرلمانية التي استحوذ بها حزب العدالة والتنمية على نسبة 47% من المقاعد، ليتوج الحزب فوزه الصادم للمؤسسة العسكرية بإعلان ترشيح البرلمان “جول” للرئاسة.
وفي محاولة للقضاء على الحزب قام النائب العام التركي بتوجيه الاتهام إليه بمحاولة أسلمة البلاد والقضاء على الدولة العلمانية، إلا أن الحزب قد استطاع أن ينجو من محاولة “الانقلاب الدستوري” هذه بحكم المحكمة الذي جاء في صالح عدم غلق الحزب بفارق صوت واحد فقط.
وقد شهدت الفترة من 2008 إلى 2011 تدعيمًا لمكانة الحزب وإنجازاته، حيث تمكن من تحقيق نجاح باهر في إنقاذ البلاد من أثر الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 على الرغم من التوترات السياسية التي كانت تسود البلاد في هذه الفترة، أما في عام 2009 فقد تضاعفت معدلات النمو الاقتصادى للبلاد عشرات الأضعاف لتنخفض معدلات البطالة وعجز الميزانية إلى أقل المستويات بحلول 2012.
أما العام 2011 فقد شهد انتصارًا جديدًا للحزب في البرلمان باستحواذه على نسبة 50% من المقاعد، كما شهد تعزيزًا لسيطرة الحزب على الجيش باستقالة رئيس أركان الجيش، ورؤساء كل من القوات المسلحة والقوات البحرية والقوات الجوية اعتراضاً على حركة الترقيات التى قام بها “أردوغان” داخل الجيش في نفس العام…
وقد تم التخلص من نصف عدد القيادات العسكرية التركية بحلول عام 2012 بوضعهم بالسجون بتهمة التخطيط ضد الحكومة، مما كان له أبلغ الأثر في تعزيز قوة الحزب بالداخل. وهكذا استطاع الحزب أن يُكسب تركيا خلال هذه الفترة مكانة عالمية عالية، وتعزيز مكانتها في الشرق الأوسط، حتى إنها قد أصبحت مثالاً تريد أن تحتذي به الدول العربية بعد ثوراتها الجديدة.
مواقف عثمانية:
لقد كان للعثمانيين الجدد دور مهم في كسر الصمت الرهيب الذي استمات عليه الزعماء المسلمون تجاه القضايا الإسلامية، فكان من تلك المواقف:
 أحداث غزة:
تجاوبهم مع أحداث غزة، ضد خرق “إسرائيل” للمعاهدات الدولية، وقتلها للمدنيين، واشتدت لهجة الحزب الإسلامي ضد الكيان الصهيوني، وأبدى عداءه مؤيدا بالجموع من الجماهير الإسلامية في كل بقاع العالم، وقد توج ذلك بالمساعدات والإعانات التي كانت حكومة أردوغان سباقة إليها، متحدية كل العوائق، وكان من أثر ذلك حادث الأسطول التركي الذي تعرض للهجوم من لدن جنود اليهود.
 مؤتمر دافوس 2009
في 29 يناير غادر أردوغان منصة مؤتمر دافوس احتجاجا على عدم إعطائه الوقت الكافي للرد على الرئيس الصهيوني شيمون بيريز بشأن الحرب على غزة، بعد أن دافع الرئيس الصهيوني عن موقف “إسرائيل”، وقد بدا أردوغان من خلال كلامه أنه كان متأثرا تأثرا ظاهرا بما يقع في غزة أنذاك، فلم يخف انتقاده للزعيم الصهيوني، بل انتقد عليه أيضا قلة أدبه في الكلام، وخاطب المشرفين على الجلسة بأنه لن يعود إلى المؤتمر مرة أخرى، وقد كان ذلك الموقف درسا قاسيا لكل الزعماء العرب، خاصة من حضر منهم المؤتمر كعمرو موسى الذي كان يشغل حينها منصب الأمين العام لرابطة الدول العربية.
 أردوغان وجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام
منحته السعودية جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام (لعام 2010/1430هـ) وقال عبد الله العثيمين الأمين العام للجائزة “إن لجنة الاختيار لجائزة خدمة الإسلام التي يرأسها في ذلك الوقت ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز؛ اختارت أردوغان لقيامه بجهود بناءة في المناصب السياسية والإدارية التي تولاَّها. وبعد أن تولَّى رئاسة وزراء وطنه تركيا أصبح رجل دولة يشار إليه بالبنان إلى نجاحاته الكبيرة ومواقفه العظيمة؛ وطنياً وإسلاميا وعالمياً”. وقد تم منحه شهادة دكتوراه فخرية من جامعة أم القرى بمكة المكرمة في مجال خدمة الإسلام بتاريخ 1431هـ.
 موقف بورما 2012
كانت تركيا أول دولة إسلامية ترسل بعثتها رسميا للوقوف بجنب مسلمي بورما الذين يتعرضون كل يوم لأشنع أنواع التحريق والتقتيل، قصد إبادتهم؛ لا لشيء إلا لأنهم مسلمون، وقد كان وزير الخارجية التركي رفقة وفده الذي ضم النساء أيضا؛ تعبيرا عن مؤازرة تركيا لهذه الأقلية والوقوف بجانبها، في جو من الصمت العربي المطبق.
 مظهر التحجب لدى نساء الحزب
كان الزي الإسلامي أحد المظاهر التي تبدو بها نساء حزب العدالة التركي، وقد عُدّ ذلك انتصارا للحزب الذي ما فتئ يدعو إلى ذلك منذ ولوجه مسار السياسة، وفي ذلك أيضا رسالة إلى الزعماء العرب اللواتي قلدت غالبيتهن الغرب في لباسهن للاعتزاز بدينهم والرجوع إلى تعاليمه.
 أردوغان وتصريحاته الخطيرة
لقد سبق أن صرح رئيس وزراء تركيا بأنه سيجدد عهد العثمانيين، أيام ضرب غزة، وقد سبق أن أوذي بسبب حربه المعلنة على العلمانية ومن يتخذها منهجاً له؛ قائلا في خطاب جماهيري: إن العلمانية والإسلام لا يجتمعان في شخص واحد، واقتبس من شعر تركي يقول:
مساجدنا ثكناتنا ** قبابنا خوذاتنا ** مآذننا حِرابنا ** والمصلون جنودنا
وعلى إثر ذلك تم توجيه اتهام له بالتحريض على الكراهية الدينية عام 1998 مما تسبب في منعه من العمل في الوظائف الحكومية وبالتالي الترشح للانتخابات العامة، حتى انحل الحزب وانقسم، وقام على أساسه حزب العدالة والتنمية الحالي.
إن ديننا لا يعترف باللغة بقدر ما يعترف بالدين والتمسك به، والدفاع عنه في أحلك الأوقات، وأضيق الظروف، بعيدا عن الأسامي الجوفاء، والشعارات الفارغة، فالدين وحدة يتشارك في نصرته الفارسي والتركي والرومي والحبشي والعربي وغيرهم، وليست هذه المرة الأولى التي ينصر فيها الدين أعاجم، واقرأ سيرة البخاري ومسلم، والنسائي وغيرهم من أصحاب الحديث الذين دونوه، وراجع سيرة علماء الأمة وقرائها السبع، وتتبع أصحاب اللغة والنحو، وتذكر صاحب أول كتاب في النحو سيبويه؛ تدرك أن الإسلام مواقف.
لقد جاء أوان أبياتك يا شوقي؛ لتعلق وساماً على أكتاف من أرادوا تحرير تركيا من علمانيتها؛ ياخالد الترك جدد خالد العرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *