لم تكن الحدود والعقوبات في الإسلام للتشفي من مقترف الجريمة ولا للتنكيل به أو القضاء عليه، وإنما هي وسيلة لتصحيح الخطأ الذي اقترفه، وانتشاله من المستنقع الذي وقع فيه، ولأخذ الحق منه إن كانت الجريمة متعلقة بحقوق الآخرين، وأخيراً لردع الآخرين عن الوقوع بمثل ما وقع به ذلك المخطئ، وذلك تحقيقا للعدل والمساواة حتى يرتدع المنحرف ويأمن المستقيم.
ولهذا حرص الشارع الحكيم أن لا تقام العقوبة إلا بعد أن تستنفد كافة الوسائل التي من شأنها أن تحد الجاني عن جنايته دون أن يقع الضرر على المجني عليه ولا على الجاني جهد الإمكان، ولذا أمِر القاضي أن يكون رؤوفاً بالمخطئين، فيخفِّف عنهم العقاب أو يمنعه لأيِّ شبهة تمنع تطبيقه؛ بغية إعطائهم الفرصة للتوبة والإصلاح، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: “ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخَلُّوا سبيله فإنَّ الإمام إنْ يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة” صحح اسناده الحافظ في التلخيص ( 4 / 56 ) وكذا قال السخاوي.
وبالإضافة إلى أن الإسلام أمر القاضي بالرأفة بالخاطئين، فإنه دعا المسلمين إلى أن يستر بعضهم هفوات بعض، خصوصاً إذا كان الخاطئ متستِّراً غير مجاهر بالخطأ، وأعطى صاحب الحقِّ سلطة العفو ما لم يعلم بها ولي الأمر، وعندها لا يقبل منه العفو، لأن الحقَّ تحوَّل إلى حقٍّ عام، فوق كونه حقاً شخصياً لصاحبه.
إن العقوبة في الإسلام شُرعت انطلاقاً من هذه المبادئ، وتحقيقاً لهذه الأهداف، ولا يجوز النظر إليها إلا من خلال هذه المفاهيم.
العقوبات والعدالة
ثم ومن جانب آخر يجب علينا أن لا نغفل مسألة العدل التي أكد عليها الإسلام أيما تأكيد، بل وأعطاها الحصة الكبرى لمن تأمل نصوص الشرع، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ المائدة، ولهذا لم يهتم الشرع بأمر المشاعر وعواطف الجاني إذا ما تعارضت والعدل الذي به تقوم الحياة ولا ريب، قال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ النور، وقال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ المائدة، ولهذا تصور بعض المستشرقين والمثقفين ثقافة أوروبية أن العقوبات الإسلامية التي تتسم بطابع من الصرامة كالجلد والقطع تتنافى -أو على الأقل- تتجافى عن العدل دون أن يخطر في بالهم أن معاقبة الجناة بهذه العقوبات إنما هو من تحقيق للعدل، فالعدل في الإسلام مقدم على مشاعر الآخرين، خاصة وإن كان الذي يراد النيل من مشاعره هو السبب في إشاعة الفوضى بارتكابه لجريمة من الجرائم، فبها يستحق أن ينال كل جزاء مناسب لينتهي هو وأمثاله عما ارتكبوه في حق الآخرين الأبرياء.
وقد يكون القصاص من أكبر أبواب العقوبات الإسلامية ومما ضل فيه كثير ممن ينصبون أنفسهم نقادا ومفكرين، ومع هذا فإنه مبني على صميم العدل ومحضه فعندما تثبت التهمة على الجاني، وتستبعد من ظروف الجناية ما قد يحمل على الرأفة فإن القصاص يكون هو العدل محضاً، فإذا كان في توقيعه قسوة، وتخفيف الحكم عن مستوى الجناية المقترفة يعد في حقيقة الحال ظلماً للمجني عليه، لأن العدل هو حجر الأساس في المجتمع الإسلامي، لذلك فإن أي تسامح فيه أو تجاوز هو مما يهدد المجتمع في الصميم، وتطبيق الحدود -عند الثبوت وبعد الضمانات- رمز للتمسك بالعدل وتطبيقه ومن هنا يمكن تفهم الأثر “حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا” وفي رواية “أربعين ليلة”، (ابن ماجة، باب إقامة الحدود).
ولا جدال أن عقوبة القطع عقوبة شديدة غاية الشدة ولا أحد يسعد بها، لكن لمَّا كانت جريمة السرقة هي أكثر الجرائم شيوعاً في المجتمع وأنها في حد ذاتها ذات طبيعة اجتماعية، فإن الأمن من الفساد بالنسبة للمجتمع أولى من بقاء يد الجاني، كما أن قطعها بسبب فساد صاحبها وإفساده، فيه رحمة بباقي أفراد المجتمع الصالحين وضمان لأرواحهم وممتلكاتهم.
فبإقامة الحدود تعم البركات المجتمع بأسره، وهي رحمة بالمعتدي، ويتجلى ذلك في مغفرة اللّه ورحمته التي تحوطه بعد إقامة الحد عليه، فالحدود كفارات للآثام وجوابر لها، تغسل أثرها وتمحو ذنبها، وكونها جوابر لا ينفي أنها زواجر كذلك، وفي حديث رسول الله صلى اللّه عليه وسلم في قصة ماعز: “لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم” (رواه الخمسة واللفظ للترمذي)، وفي قصة الغامدية: “لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم” (رواه الخمسة، انظر التاج)، فالحد أشبه بجرعة من الدواء الكريه يشربها الإنسان ليحصل بعد ذلك على الراحة.
العقوبة مظنة الردع
وهناك حكمة أخرى في القصاص وإقامة الحدود الشرعية هي أنه بالإضافة إلى العدل الفردي -أي ما بين الجاني والمجني عليه- فإن القصاص يحقق الردع وهو أحد الأهداف الاجتماعية للعقوبة، وهو وحده الذي يمكن أن يحسم شأفة كثير من الجرائم التي انتشرت اليوم في المجتمعات انتشار النار في الهشيم، فالقصاص وحده هو الذي يمكن أن يوقف تلك الجرائم، فإذا أردنا أن نقضي على أبشع الجرائم دون مجاوزة لحدود العدالة، فعلينا بالقصاص، ويجب عندئذ أن نستبعد كل الاعتراضات، بل يمكن أن نطبق القصاص في جرائم يحدد عقوبتها “التعزير” كما يقول الفقهاء، فلا شيء يوقف هذه الجريمة أو يتعادل معها إلا القصاص حتى وإن كان من الممكن إصدار أحكام بالنفي تطبيقاً للحديث «من غشنا فليس منا» الترمذي, وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 3/48, برقم:1058, وهو بدوره يمثل العدل، فإننا نجد أن القصاص أكثر العقوبات فاعلية.
وقد كانت فكرة الردع هي التي جعلت القطع عقوبة السرقة، وعندما يغيب هذا المعنى، ويعلو ران العلمانية على قلوب الناس، فينتكس الفهم ويتصدر الرويبضة، تبدو العقوبة وكأنها لا تتناسب مع الجريمة ويصبح من حق الشاعر في التعبير عند من رق دينه أن يتساءل:
يدٌ بخمس مئين فضة فُدِيت ما بالها قُطعت في ربع دينار..
كما تجد شبهات الأوروبيين والمحدثين رواجا في بلاد المسلمين حين يكتبوا عن “وحشية” العقوبة والحد في الإسلام.
ولا جدال أن عقوبة القطع عقوبة شديدة غاية الشدة ولا أحد يسعد بها، لكن لمَّا كانت جريمة السرقة هي أكثر الجرائم شيوعاً في المجتمع وأنها في حد ذاتها ذات طبيعة اجتماعية، فإن الأمن من الفساد بالنسبة للمجتمع أولى من بقاء يد الجاني، كما أن قطعها بسبب فساد صاحبها وإفساده، فيه رحمة بباقي أفراد المجتمع الصالحين وضمان لأرواحهم وممتلكاتهم، والقطع مع أنه أهون من القتل الذي كانت تحكم به المحاكم في الدول الاشتراكية على من تثبت عليهم السرقة، فإنه أشد فاعلية من القتل، ولعل في القطع حكمة أخرى ألا وهي منح السارق فرصة للتوبة النصوح لأن في قطع يده التي اجترأت على المعصية وأخذ حق غيره والتي قد أدمنت على هذا الفعل الشنيع فلا يستطيع الإقلاع عنه وآلته موجودة فربما يتوب مع نعمة زوالها عنه واستئصالها منه وإبعادها، فإنه سوف يجد الفرصة المواتية للتوبة والندم وشق طريق جديد نحو الآخرة التي منعته منها تلك اليد المعادية، وقد أ