1-تعريب التعليم والمسألة الاجتماعية
الغموض والتراجع هو ما حكم ميدان “تعرب التعليم” في المغرب بعد الحصول على الاستقلال، ولا زال يحكمه إلى اليوم. فكلما تحقق إنجاز إلا وتم التراجع عنه بعد حين، وذلك من السنوات الأولى للاستقلال إلى اليوم.
يقول محمد عابد الجابري: “وهنا أيضا قد لا نكون في حاجة إلى استعراض مختلف القرارات، والبدايات والتراجعات، والمآزق، التي عرفها تعليمنا في ميدان التعريب، منذ الاستقلال إلى اليوم. فلقد كانت السنوات السبع عشرة الماضية عبارة عن متاهات لا مخرج لها، متاهات يؤدي بعضها إلى بعض، ولكنها تعود دائما بالتائه فيها إلى نقطة انطلاقه. لقد تكررت المحاولات المأساوية مرات عديدة، ولكن دون جدوى: ففي كل مرة يتسلق فيها التعريب بعض الدرجات في سلم تعليمنا إلا وكانت الخطوة التالية هي الرجوع إلى الوراء بأسرع ما يمكن”. (محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، ص 76-77).
السؤال المطروح هو: ما سبب كل هذه التراجعات؟ وما سبب كل هذا الغموض؟
الجواب هو: أن القضية اجتماعية بدرجة أولى.
ولكن، كيف ذلك؟
إن الغموض ناتج عن “الطابع التوفيقي” الذي أنتج المبادئ الأربعة للتعليم، وإن التراجع ناتج عن تغير “العلاقات السائدة بين الفئات المتصارعة داخل النخبة المسيرة”. (نفسه، ص 71)
ما المقصود ب”الطابع التوفيقي” للمبادئ الأربعة للتعليم؟
وكيف تتغير “العلاقات السائدة بين الفئات المتصارعة داخل النخبة المسيرة”؟
إن الصراع الذي طغى على التفاوض الذي أنتج المبادئ الأربعة للتعليم، هو نفس الصراع الذي سيستمر على مستوى تسيير قطاع التعليم إلى اليوم.
لقد كان الصراع في الأصل قائما بين ما أسماه الجابري: “الحلف الوطني الذي يضم: البورجوازية المغربية الناشئة بقسميها التجاري والزراعي، والأرستقراطية التقليدية الدينية منها والعلمية والسياسية، وجماهير الشعب بمختلف فئاته”، وبين ما أسماه: “الزعامة الرسمية التقليدية”. (نفسه، ص:58).
فإذا كان مبدأ “التعريب” يمثل “الأرستقراطية التقليدية”، فإن مبدأ “المغربة” يمثل “البورجوازية المغربية الناشئة”.
وإذا كان مبدأ “التعريب” يعطي العربية مكانتها التي تستحقها، فإن مبدأ “المغربة” يفتح المجال أمام النخب المغربية ذات التكوين الفرنكفوني لتعود من جديد في غياب كفاءات واطر ذات تكوين عربي.
هذا هو رأي محمد عابد الجابري، وقد لا يوافقه عليه كثيرون. ولكنه يتشبث به أيما تشبث، لأن التعريب في نظره شامل للمغربة والتوحيد معا.
فهل هناك مغربة تتحقق من غير تعريب؟
وهل هناك توحيد يتحقق من غير تعريب أيضا؟
2-مبدأ التعريب واستمرار التردد
أكثر ما يتخوف منه الجابري، وذلك ما رآه حاصلا، هو أن يكون التعريب موضوعا لإرضاء خاطر فئة من الفئات، إلى أن يتم التراجع عنه اعتبارا لمبادئ أخرى تتسم بغموضها وقابليتها للتأويل. (نفسه، ص:68).
لقد كانت “المبادئ الأربعة” من جنس “الحلول الوسطى” (بتعبير الجابري)، وهي نفسها الحلول التي أنتجت استقلال المغرب. ذلك الاستقلال المنقوص الذي خلف عدة مشاكل في: التعليم، الإدارة، الاقتصاد، الوحدة الترابية…
إن هذا الغموض الذي تتسم به “المبادئ الأربعة للتعليم” هو الذي أدى إلى مختلف التراجعات التي لحقتها، وتلك حالة شهدها مبدأ “التعريب” كما شهدتها المبادئ الأخرى. فبمجرد ما كانت تتغير “العلاقات السائدة بين الفئات المتصارعة داخل النخبة المسيرة” لصالح القوى الوطنية والأرستقراطية التقليدية، إلا وكان التعريب يأخذ منحاه الطبيعي في اتجاه تعريب التعليم. وبمجرد ما كانت موازين القوى تتغير لصالح الطبقات والفئات الأخرى (التي ترى مصلحتها من مصلحة الاستعمار الفرنسي، وما هي كذلك)، إلا وتم التراجع عن التعريب لصالح الفرنسة والمد الفرنكفوني.
إن السياسات الغامضة والتراجعية، وهي اجتماعية في أصلها كما رأينا، قاصدة وليست متخبطة… وهي نفس السياسات التي قررت: التعريب العمودي بدل التعريب الأفقي، والتعريب الجزئي بدل التعريب الشامل.
إن اللوبي الفرنكفوني، والطبقات التي ترى مصالحها من مصالح الاستعمار الفرنسي (وما هي كذلك)… ليس من مصلحتها أن يشمل التعريب التعليم والإدارة والاقتصاد وكل مجالات الحياة العامة، وهي قبل كل ذلك تخشى أن يتم تعريب التعليم بكل مستوياته ولو لم تعرَّب الإدارة والاقتصاد. ولذلك، فهي تتخذ التعريب العمودي حيلة وليس سياسة لغوية وطنية وتنموية صادقة. تتخذه تعريبا مؤقتا سيتم التراجع عنه في أي وقت، وهو ما نراه حاصلا بلا منازع. وعوض أن يتم تعريب التعليم أفقيا، تم الشروع في فرنسته أفقيا.
فما تكون “الأقسام الدولية” في الإعدادي والثانوي إن لم تكن تعبر عن الفرنسة “من وراء حجاب”؟
فهل نحن في حاجة إلى النزول عند رغبة أقلية قليلة مقابل التضحية بالتوحيد والتعريب؟ أم أن الفرنسة هي الهدف الأول والأخير؟
لا يمكن أن نتحدث عن أي تعريب ما لم يكن شاملا، وقد أثبتت التجارب أن كل تعريب جزئي ما هو إلا حيلة مؤقتة لإخماد كل حراك وطني يطالب بالتعريب.
3-تعريب التعليم في نظر علال الفاسي
وعى هذه القضية وطنيون كثيرون، منهم: علال الفاسي. لم يكن مطلبه تعريب التعليم فحسب، وإنما تعريب كل مناحي الحياة العامة والخاصة. ففي ندائه من أجل التعريب (1973) ، يطالب الشعب المغربي بمواجهة الفرنسة في: المدرسة المغربية، الجامعة المغربية، الوظيفة العمومية، أجهزة الحكومة، المرافق العامة، مختلف الإدارات، الاقتصاد، الحياة الخاصة…
ولذلك وجدناه يقول في ندائه: “وإن كلمة الأمر اليوم، طبقا لإرادة الشعب ولما قرر حزب الاستقلال هي: لغتنا العربية لا نرضى بها بديلا في الإدارة، وفي المدرسة وفي الحياة العامة. ومعنى هذا أيها الشعب الكريم، أننا سنجعل في مقدمة نضالنا هذه السنة محو كل لغة أجنبية من إدارتنا ومن حياتنا العامة، وجعل العربية وحدها في هذين المرفقين، وتعريب التعليم بجميع مراحله حتى لا يبقى للغات الأجنبية إلا ما هو معتاد في مدارس وجامعات الدنيا”. (علال الفاسي، نداء من أجل التعريب الصادر عام 1973)
لا تعريب ينجح في مجال التعليم دون تعريب التعليم العالي أيضا، ولا تعريب ينجح في التعليم ككل دون تعريب الإدارة والاقتصاد وباقي المجالات الأخرى.
نقول هذا حتى لا يتداعى الفارغون مرة أخرى، فيدلسوا على الناس بفشل التعريب وهو لم يحصل أصلا.