2- رغم كل الجهود المبذولة في هذا المجال لازال المغرب يراوح مكانه في مؤخرة الترتيب بين مصاف الدول المتخلفة، فإلى ما يعزى هذا الوضع؟
ينبغي أن ننظر إلى الأمر باعتدال من غير تهويل ولا تهوين وأن نكف عن جلد الذات باستمرار، ما يبذل بحق من جهود هي كبيرة وكثيرة، ولولا المخلصون في هذا القطاع -بعد الله تعالى- لانهار من زمان؛ ولكن هناك شرفاء مرابطون في مختلف المواقع المركزية والجهوية والمحلية من إداريين وتربويين وفي مختلف مجالات التخطيط والتوجيه والاقتصاد والمختبرات والأعوان وطاقم التدريس وجنود الخفاء في آلاف المؤسسات في السهول والجبال في المدن والقرى.
فالعملية التعليمية التعلمية عملية معقدة متشابكة فيها متدخلون كثر لا يكادون يحصون عددا، وأي خلل في أي مفصل من المفاصل يمكن أن يؤثر على العملية برمتها، فمسؤولية التخلف في القطاع هي مسؤولية جماعية ومسؤولية كل متدخل على حدة على تفاوت في تلك المسؤوليات سواء كان في مركز القرار أو في مسؤولية جهوية أو إقليمية أو فرعية محلية أو المحيط بكل هؤلاء وبيئة التلميذ حتى نصل إلى مسؤولية الأسرة والآباء وحتى التلاميذ والطلبة وخصوصا البالغين منهم، فالتعليم وإن كان ينظر إليه أن يكون القاطرة للتقدم والنهوض فلا ينفك عن التأثر بالبيئة التي يكون فيها سلبا أو إيجابا، فهو ابن بيئته ما لم يتبوؤ فيها مركز القيادة ويصبح هو المضغة الاجتماعية إذا صلح صلح به المجتمع كله.
فأخلص إلى أن المعضلة عندنا بحسب ما أرى ليست في الموارد البشرية ولا حتى في الإمكانات المادية أقصد من جهة الكم، وإنما في غياب البوصلة والروح والبركة، وحتى إذا ألح البعض على وجود بوصلة ما لتعليمنا فهي غير واضحة بما فيه الكفاية لتشرئب إليها الأعناق ويجد الناس في السير نحوها، عندنا جسم تعليمي ضخم ولكن بحاجة إلى نفخة روح كي ينتفض ويقود الأمة نحو مقاصدها وليست الروح غير الوفاء بحق لوحي ربنا وبيان نبينا عليه الصلاة والسلام، نرصد أموالا ضخمة مقارنة بدخلنا وإمكاناتنا ونخصص أوقاتا كثيرة وموارد عديدة ولكن تنقصها بركة الأمانة والاقتصاد والنزاهة والزهد في المال العام، إننا بحاجة إلى وفرة كبيرة في عدد الرساليين العاملين في المجال التربوي التعليمي ليسدوا النقص الحاصل من بائعي الحروف والمتاجرين بمستقبل الأجيال بعرض من الدنيا قليل.
3- ورش التربية والتعليم ورش مصيري بالنسبة للمغرب اليوم، ألا ترون أن غياب الاستمرارية بين البرامج الحكومية والمخططات الاستراتيجية القطاعية يحول دون تحقق النتائج المنتظرة؟
هذا واضح، فنحن في التعليم نضع خططا بعيدة المدى لتكوين أجيال، أو بالأحرى تكوين إنسان بما يصلحه من الروضة إلى أن يتخرج من الجامعة، أي ما يعادل تقريبا ثلاث حكومات متعاقبة فلا يصلح أن تخطط الأولى للمخرجات النهائية، وتأتي الثانية فتربك الخطة في المرحلة الثانوية، أو تأتي الثالثة وتربك المرحلة الجامعية.
وعلى سبيل المثال: مسلسل التعريب في بلادنا على الأقل على المستوى التعليمي اتخذ بعد انتظار طويل وتردد كبير، وأنجز قسما كبيرا منه الدكتور عز الدين العراقي رحمه الله لما كان على رأس الوزارة حتى وصل إلى مستوى الباكالوريا، والمفروض أن يأتي من بعده ويكمل العملية إلى المستويات العليا مع تحصين التجربة بعوامل النجاح مثل اعتماد الانجليزية كلغة موازية للترجمة والتفاعل مع المستجدات العلمية ومواكبة التطورات عوض الفرنسية، فيكون إتقانها شرطا وخصوصا في مستوى الماستر والدكتوراة، ومن اكتفى بالإجازة يصلح أن يؤهل لإعادة تدريس العلوم باللغة العربية في المستويات الأساسية والثانوية، ولن تكون عربيتنا أقل شأنا في مواكبة مستجدات العلوم من الكورية والعبرية واليابانية والهولندية والسويدية والفلندية والفلمانية والتركية والفتنامية وغيرها من لغات الدنيا الأقل انتشارا والأقل غنى، والتي تدرس بها العلوم في المستويات العليا مع الاستعانة في الأغلب الأعم بالإنجليزية.
ولكن الذي حدث عكس هذا تماما، تم إيقاف التعريب عند عتبة الباكالوريا بقرار فوقي لا شورى فيه ولا ديمقراطية، وأصبح الناس في ارتباك شديد حتى محبي العربية يرون معاناة أولادهم في التعليم العالي حيث يشكل تغيير لغة التدريس عائقا كبيرا أمام تفوقهم واستمرارهم في الدراسة، وأصبحوا مهيئين اضطرارا لقبول إعادة فرنسة العلوم في المستويات الثانوية، ولا شك أن هذه النتيجة هي مقصود من أوقف تعريب التعليم العالي، ولو أرادوا ذلك لأعدوا له عدته، ولكن كره الله انبعاثهم وقيل اقعدوا في التبعية وذل التقليد.
فالأصل هو الاستمرارية، إلا إذا كان ما سار عليه السابقون تشوبه روائح الفساد أو ترسيخ الطبقية والتمييز بين المواطنين ونحو ذلك من الاختلالات فلا مانع من المراجعة والتصحيح، وخصوصا إذا كان القائمون على ذلك ممن اختارهم الشعب بنزاهة وشفافية وينتظرهم إعطاء الحساب فلا يعقل أن يستمروا في الطريق الخطأ.
4- أكد الخطاب الملكي الأخير على تسريع إقرار النصوص القانونية المتعلقة بتفعيل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كيف تقيمون هذه التجربة، وهل ترون أن المجلس بتمثيليته المجتمعية؛ وتخصص أعضائه الوظيفي والمهني؛ سيقدم حلولا ناجعة لمعضلات التعليم؟
تعتبر آلية تفعيل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي آلية دستورية مهمة لضمان الاستمرارية التي تحدثنا عنها سالفا وربط اللاحق بالسابق في أعمال الحكومات المتعاقبة، ولكن شريطة سلامة تركيبها بوجود عدد معتبر من خبراء الميدان والمفكرين فيه وأهل الاختصاص وتكون تركيبته أيضا بحيث تعبر عن مختلف الحساسيات المجتمعية ولا تلغي اختيار المكون الأغلبي في المجتمع، .
إذ الذي يحدث أحيانا أو في كثير منها في مثل هذه المجالس العليا أن يمثل المكون الرئيسي والأغلبي بشخص أو شخصين أو حتى ثلاث وتأتي تيارات أخرى تعبر عن حساسيات محدودة وأقليات فكرية وربما بعضها معاد لتوجه السواد الأعظم في الأمة فيمثلون بأعداد كبيرة جدا لا توازي نسبتهم المحدودة في المجتمع، ويأتون من أبواب ونوافذ مختلفة باسم الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والحقوقي وغير ذلك مما يحسنون التفريخ فيه، فيجد مثلا ممثل المجلس العلمي الأعلى ومن هو قريب من فكره وتوجهه من بعض الأفراد، يجدون أنفسهم غرباء مستضعفون وسط تلك الجموع من النسخ والألوان المتعددة للعملة الواحدة، ويجد أصحاب التوجه الإسلامي أنفسهم في حرج سواء طرح أمر التوافق في القرارات أو التصويت بالأغلبية، فيبحثون حينها وفي هذا الجو المغشوش عن مجرد دفع الشرور والتقليل من الخسائر وخصوصا في معركة الهوية والقيم.
والشرط الثاني الذي أراه أن لا تتعدى تلك المجالس العليا دور الاستشارة -كما هو مسطر في الدستور- وإبداء الرأي والملاحظات وحتى تقييم الأعمال، وأن لا تعطل دور الحكومات المنتخبة من الشعب والتي يجب أن تبقى في يدها المبادرة واتخاذ القرار، وأرى من الأمثلة السيئة في هذا المجال ما يحدث الآن في القطاع السمعي البصري، فإذا احتج الناس على ما يبث في القنوات الوطنية التي تمول من جيوب المغاربة من ميوعة وانحلال وتفاهة، يحيلهم الوزير المنتخب الذي لا نشك في غيرته ونزاهته على “الهاكا” ولجن القيم والأخلاقيات ونحو ذلك، وهؤلاء معينون لا ندري المعايير التي بها يختار أغلبهم ولا الطرق التي بها يأتون إلى تلك المواقع، وهم بتلك الأحوال لا يبالون برضى الشعب ولا بسخطه، فتكون مثل هذه المجالس العليا حينها نوعا من تهريب الإرادة الشعبية وإفراغ سلطة الحكومات من مضمونها والتحايل على إرادة الأغلبية حيث ينتخب من لا قرار له ويجعل القرار في يد من لا محاسبة عليه، فيستمر الفساد والاستبداد.