المصلحة المعتبرة
كل هذا يؤكد معشر الفضلاء أن رأس المقاصد “أن يكون العبد بموقع الخاضع لله النابذ هواه، وأن المصالح التي “حيثما كانت فشرع الله ثم”، والتي طاف العلمانيون وأشباههم بكلام الطوفي حولها، ليست إلا المصالح الثابتة بالشرع رأسا كقوله تعالى: “أن تَضِلُّوا” وقوله: “نَكَالاً مِنَ الله” وقوله: “كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ”، وأما ليُّ النصوص من أجل مصالح خاصة، أو مقاصد عارضة، أو مصالح ومقاصد متوهمة، فكل ذلك سعي في ضد تلك المصلحة والمقاصد.. أي أنه تحقيق للمفاسد التي جاء الشارع بدرئها وتقليلها “فأم المفاسد أن يحرف شرع الله تأويلا بادعاء المصالح ورعي المقاصد”.
وكلام العلماء عن كون المقاصد هي تحقيق مصالح العباد العاجلة والآجلة.. دائر في هذا الفلك السائر عند الشاعر والناثر، أي أن الله لم يجعل في شرعه مفسدة أو مشاق “يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ” وأن الشريعة أنزلت محققة لمصالح العباد “إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ” “هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ” قال الغزالي: “اتباع المصالح مع مناقضة النص باطل” شفاء العليل ص: 220.
فالشريعة هي محققة لمصالح العباد، وليست مصالح العباد التي يقترحون في الشريعة؟!!
والمقاصد هي لإبراز جمال الشريعة وكمال حكمة الشارع في وضع ما كان.. وليست المقاصد لتحريف ما هو كائن أو تسويغ ما لا ينبغي أن يكون؟!!
وإلا فقل لي بربك ما وجه كون “حفظ الدين” أول الكليات الخمس المتفق عليها بين الشرائع من دين ونفس وعقل ونسل ومال؟!
وقد أكد الشاطبي ذلك بحمله معظم مباحث الموافقات على تفصيل مقاصد الشارع قبل مقاصد المكلفين لأنها هي المعنية بالمراعاة أصالة وإذعانا، والله الموفق.
لعبة المقاصد وإهمال المصالح الأخروية
ثم هذا الحديث الطويل عن المقاصد لا يكاد يذكر فيه إلا واقع الناس والحياة المعاصرة وأزمات التواصل وتطور الوقت.. في أوصاف متعددة لحصر المقاصد في المصالح الدنيوية فقط.
فهل الشارع الحكيم قصر المكلف على دنياه وأهمل آخرته؟!! أم أنه قصد الدنيا والآخرة معا؟!
يقول الشاطبي في المسألة السابعة: “الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية على وجه لا يختل لها به نظام” وصرح كون ذلك “أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين في جميع الأحوال” الموافقات 2/62.
وفي الثامنة قال: “المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى”.
هذا كلام الإمام فأين هي الآخرة بمقوماتها حين الحكم بالمقاصد؟!
أم إن الإيمان بالبعث والحساب لا يدخل في حساب العلمانيين وإبداعاتهم الفكرية؟! وإذا كان داخلا أليس الشارع قد غلب همَّ الآخرة على هموم الدنيا وجعل الفداء لها أبقى وأهم؟ قال الله تعالى: “والآخرة خير وأبقى” “وللآخِرَةُ خيرٌ لكَ مِنَ الأُولَى” “وإنَّ الدَّارَ الآخَِرةَ لَهِيَ الحَيَوَان” “تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَة” وهذا صريح في أن مقاصدها أعلى وأنها عند التزاحم تحظى بالتقديم.
وصريح تطبيقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل” ناهيك عن مقصد الخوف من الله ولقائه المتكرر في خطاب الوعيد بأصالة وتجذر يجعل التعليل به في نحو قوله: “لعلكم تتقون” لازما لكل الأحكام والتكاليف.
قال الله تعالى: “فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى”.
إننا لا نشك في إهمال لعبة المقاصد ورغوتها لمقاصد الآخرة ولمقاصد الله في شرعه!
عبث وتلاعب
والأدهى من ذلك ما نرى من تصرفات الإعلام والكتاب، حيث تجد الفسيل الضئيل منهم يعمد إلى أي نص شرعي، بل في بعض الأحايين روايات من التاريخ!!
ثم يستخلصه للناس -وليس لنفسه!!- مقصدا يبني عليه أمما من الأباطيل حتى صارت المقاصد بعدد ألوف النصوص، بل ستصير بعدد ملايين الناس في إطار احترام الحريات وربما ببلايير الدولارات إبان الإعصار المالي العاصف، هذا طبعا إذا كان ذلك النص قد وافق هواه أما إذا خالفه فإنه يطفق يعلمنا الجمع بين النصوص وحتمية الرؤية المتوازية للمجتمع والمصالح.
أي عبث هذا يا معشر العقلاء؟!
إن المقاصد كبريات الكليات، وهذا يستدعي أن تكون مستقرأة أي من الاستقراء وهو التتبع المحيط بالجزئيات، وليس من القراءة أي قراءة أحد ما في رياض الصالحين أو صفوة التفاسير، أو حتى لو تخرج بعد تعثرات من شعبة الدراسات التي ألجئ إليها، ثم امتحن في كتاب للدكتور الريسوني وربما قدم أطروحة في المعنى؟!
المقاصد بين الجزئي والكلي
إن المقاصد تنشئة شرعية ومرحلة علمية تستوعب مدرسة العمر كما أنها ترجع إلى الدين كله، ومن مظاهر الفساد المقاصدي نظرة العلمانيين والمتعالمين إلى جزئيات الشريعة وكأنها “رتوش” لا حاجة لها.. مع أن الشاطبي يؤكد في مواضع بأنها أساس المقاصد، كقوله رحمه الله: “فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي”.
وقوله: “فلابد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد”.
إننا لن نكون من المصلحين بالوعي المقاصدي ونحن ننهج تجزئة الشرع “نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض” وإذا كوشفنا في المباحثة “عرفنا بعضه وأعرضنا عن بعض”.
لا تستقيم مقاصد الشريعة حتى تكون الشريعة لوحا واحدا أمام نظر المجتهدين، وحتى يكون الوحي آية واحدة هي القرآن كله، وحديثا جامعا في السنة النبوية جمعاء، فمَن غلّب “ورحمتي وسعت كل شيء” على قوله: “وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ” أو نظر إلى قوله: “إنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ” دون قوله: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ” لم ولن يفهم روح التشريع، ويضل في أقرب أبوابه بين النسخ والتخصيص؛ إذ ذاك تصير أبواب التسيير والإسقاط أقرب إلى فهمه لخفة مؤونتها عليه، حينها يصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا”؛ يستحب التبرج تحررا، ويذم الحجاب تعذرا أو تقذرا، ويرخص في الخمر تسامحا، ويمنع السواك تناطحا، وينظر إلى نظرياته مسلمات.. ويجعل صريح السنة وصحيحها آحادا، ويتكلم عن قادة الغرب ومجانين فلاسفته بأنهم مبدعون رائعون.. فإذا جاء إلى علماء الإسلام في أصول الفقه وفي الجرح والتعديل جعلهم حقبة زمنية وتاريخا غابرا واجتهادا من حقنا مصادرته، حتى ولو كان أهله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
أي مقاصد هذه التي تجعل من مجلس الإدارة خارج البناية ينتظر قرار الفراشين والنباشين في جدوى مشاريعها!! حتى شككتُ لبرهة هل عمر الذي يذكرون هو الذي كان يقول: “إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا” جامع ابن عبد البر 2/1041. وأنه الذي كان يستحلف على الرواية ويعززها، وأنه الذي عزر صبيغا.. وكان دينه الورع، وغالب اختياراته احتياط وسد ذرائع..
الاستقراء أهم مسالك إثبات المقاصد
من هذا الوجه لم يختلف العلماء في اعتبار الاستقراء أهم مسالك إثبات المقاصد، بل جعله ابن عاشور المسلك الأول، ومن خلال النظر في جملة ما كتبه علماء المقاصد، يمكن أن نحدد معالم الاستقراء السبعة التي لا يكاد يتحقق إلا من خلالها:
1- استيعاب القرآن.
2- التدقيق في السنة.
3- مشاهدة عموم الصحابة.
4- منصوص علل الأحكام.
5- المتواتر المعنوي.
6- ملاءمة تصرفات الشارع المتعددة.
7- سكوت الشارع باقتضاء أو بغير اقتضاء.
ومن هنا نستطيع القول بالتقارب الكبير بين أصول الفقه والقواعد الفقهية والمقاصد الشرعية، وأن الثلاثة تجتمع في كونها آثارا لأحكام ثابتة استنبطت من أدلة معتبرة.. وعليه فلا يمكن أن يعتدى بها على الأدلة والأحكام!!! (وليراجع كتاب الحبيب بن الخوجة “بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة”).
الوعي المقاصدي بين التسيب والانضباط
وأؤكد رفض التسيب في استخدام المقاصد بقول ابن عاشور: “والمكلفون بحاجة إلى معرفة المقاصد وليس ذلك على إطلاقه وإنما هي وظيفة العلماء” 3/51.
ولعل من أهم ضوابط “الوعي المقاصدي” هو تقديس العقل في حدود حاكمية الوحي.
والعقل هنا “هو فكر المجتهدين ديانة وعلما” لا عقل أولئك الذين نبغوا قصد إرجاعنا إلى منطقيات لا تتخلف ـ زعمواـ فكانوا أشد اختلافا في مسلماتهم من العلماء في اجتهاداتهم.. وإن كنا نسلم حقهم في السؤال والاستشكال على حد قوله تعالى: “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” كما أن أهل الذكر يسألون أهل الطب فيما لا يعلمون “فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً”.
مع أن الشارع الحكيم لم يقصد حسم مادة الخلاف، ولكن قصد القطع في الضروريات، وجعل الخلاف بين البشر لمقصد أعلى هو سلامة معصومية النص من النظير.
قال تعالى: “لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً” وقال: “وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً”.
قال الشاطبي: “فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل” 1/125. وقال في الاعتصام 1/184: “إن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح فهو عمدتهم الأولى، وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، فهو المقدم في نحلهم، بحيث لا يتهمون العقل وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر.. ثم قال: وليس كل ما يقضي به العقل يكون حقا. قلت: وبرهان ذلك واضح في قصور العقل عن الإحاطة وهي مسلمة فلسفية، ولذا قال القرافي في النفائس 1/402 “إن الشريعة تحيط بجزئيات من المصالح لا يحيط بها العقل” وهذا هو السر في اعتماد الشريعة مرجعا دون غيرها.
إذا ضبطنا وعينا المقاصدي بهذه الأصول الأربعة:
1- حاكمية الخالق.
2- مراعاة الآخرة.
3- تكليف العلماء.
4- توظيف العقل.
فلابد من أصل خامس وهو: الخطاب الفصيح.
يتبع ..