لإقصاء الإسلام والشعائره من المشهد السياسي، والتمكين لحزب (رابطة عوامي) اتخذ النظام السياسات يمكن أن نلخصها فيما يلي:
تصفية الأحزاب السياسية الإسلامية:
في البداية، سعى النظام الحالي للربط بين الأحزاب السياسية الإسلامية والتشدد، وكانت هناك دعاية واسعة النطاق أطلقها بعض الوزراء ووسائل الإعلام في الداخل والخارج بأن بنجلاديش “دولة التطرف”، ربما لجذب القوى العظمى التي تعادي الإسلام ومن ثم حصول النظام على الدعم المطلق ضد القوى السياسية الإسلامية، وقد دبرت بعض الحوادث التي أدارتها الدولة لتثير وسائل الإعلام ضجيجًا حول هذه القضية وتكسب الرأي العام لصالحها.
خلط بين الحركات المتشددة والأحزاب الإسلامية:
الأحزاب الإسلامية الرئيسية في بنجلاديش تشمل الجماعة الإسلامية، والنهضة الإسلامية (أوج) وقد شكلتا حكومة تحالف مع الحزب الوطني لبنجلاديش ما بين 2001-2006م، وهذان الحزبان شجبا بشدة العنف، ولم يثبت أي دليل على تورطهما في العنف وحمل السلاح، غير أن العلمانيين المتطرفين يحاولون دوما إلصاق تهمة العنف بهذه الأحزاب.
وقد شكل النظام “محكمة جرائم الحرب” في محاولة لمحاكمة وإعدام من يسميهم بمجرمي الحرب. صحيح أن القوات الباكستانية مارست جرائم حرب، واضطهاد للمدنيين في حرب عام 1971م (التي ترتب عليها انفصال بنجلاديش وكانت تسمى باكستان الشرقية عن باكستان)، كما جرت عمليات إبادة عرقية ضد مسلمي بيهار (الذين وقفوا إلى جانب باكستان) من قبل جيش تحرير بنجلاديش تحت قيادة “رابطة عوامي بنجلاديش” كما ورد بتقارير شبكة إن بي سي، يومي 30 و 31 ديسمبر 1971، لقد ارتكب جيش تحرير بنجلاديش إبادة جماعية، وترك أكثر من 30.000 بيهاري للموت صبرا وجوعاً في مصنع الجوت في آدمجي بالقرب من داكا، لأنهم كانوا يريدون البقاء مع باكستان.
لكن بعد الانفصال تمت تصفية أكثر من نصف مليون بيهاري بواسطة “رابطة عوامي بنجلاديش” والأحزاب الأخرى، لكن المحكمة المشكلة مؤخرا، لا تحاكم مجرمي الحرب الثابت إجرامهم هؤلاء، بل تحاكم كبار قادة الجماعة الإسلامية الذين أيدوا سياسيا وجود باكستان المتحدة، ولم يكن لهم يد في ارتكاب جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية.
حقيقة قضية مجرمي الحرب
عقب استقلال بنجلاديش في عام 1971، تم تحديد 195 ضابطا من الجيش الباكستاني (ليس فيهم واحد من الجماعة الإسلامية) كمجرمي حرب، وفق التحقيقات الأولية التي أجرتها حكومة بنجلاديش آنذاك، على إثر معاهدة سيملا التي تم التوقيع عليها في 2 يوليو 1972 بين إنديرا غاندي، رئيسة وزراء الهند، وذو الفقار علي بوتو، رئيس وزراء باكستان، تم التوقيع على عدد من الاتفاقات بين الهند وباكستان فيما يتعلق بإعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم.
وفي 9 أبريل 1974، تم التوقيع على اتفاقية بين بنجلاديش والهند وباكستان في نيودلهي أثيرت فيها من بين مسائل أخرى، مسألة محاكمة 195 أسيرا حربيا، وتقررت إعادتهم لباكستان دون محاكمة، وإليك الفقرة 15 من اتفاق عام 1974:
“في ضوء ما سبق، وبخاصة، مراعاةً للنداء الذي وجهه رئيس وزراء باكستان لشعب بنجلاديش للصفح ونسيان الأخطاء الماضية، ذكر وزير خارجية بنجلاديش أن حكومة بنجلاديش قررت عدم المضي قدما في المحاكمات عملا بالعفو والصفح، وتم الاتفاق على إعادة الـ 195 أسيرا حربيا إلى باكستان مع سائر أسرى الحرب الذين هم ضمن عملية الإعادة إلى الوطن الآن بموجب اتفاقية دلهي”.
وهكذا أعيد 195 أسيرا من المصنفين كمجرمي حرب إلى باكستان، وتم التخلي عن محاكمتهم.
قانون المتعاونين
في 24 يناير 1972، سنت حكومة بنجلاديش قانونا آخر لمحاكمة أولئك الذين لم يقفوا إلى جانب حرب التحرير، أو عارضوا الدعوة لحرب التحرير سياسيا، أو تعاونوا طواعية مع الجيش الباكستاني، أو ارتكبوا أعمالا إجرامية، وسمي هذا “قانون المتعاونين” لسنة 1972.
ألقي القبض على أكثر من مائة ألف شخص بموجب هذا القانون، اتُهم من بينهم 37.471 شخصا، ولم يتم مقاضاة 30.623 آخرين لعدم توافر الأدلة، والذين قدموا للمحاكمة بعد التحقيق 2.848 شخصا أدين من بينهم 752، أما بقية المتهمين أي 2.096 فوجدوا غير مذنبين، وتم الإفراج عنهم، ولم يكن أحد من زعماء الجماعة الإسلامية بين أي من تلك الفئات المذكورة.
ومراعاة لحالة السخط والكراهية السائدة في البلد أعلنت حكومة بنجلاديش تحت قيادة الشيخ مجيب الرحمن عفوا عاما في نوفمبر 1973 لإغلاق هذا الفصل المظلم.
وغني عن الذكر أن مؤسس بنجلاديش الشيخ مجيب الرحمن، والد رئيسة الوزراء الحالية الشيخة حسينة، اعتقد أن من صالح البلد القضاء على كل الصراعات والمحن والتناقضات التي تفجرت خلال حرب التحرير، بإعلان عفو عام، وبفضل العفو العام تم الإفراح عن جميع من اعتقل بتهم طفيفة بموجب القانون، ولكن العفو لم يشمل المتهمين في جرائم كبيرة مثل الاغتصاب أو القتل، والحرق العمد أو النهب، بل أبقى العفو المجال مفتوحًا لمقاضاة ومحاكمة المتهمين بارتكاب مثل هذه الجرائم.
إلغاء قانون المتعاونين
في 31 ديسمبر 1975، ألغى “قانون المتعاونين” بأمر رئاسي، أي أن قانون المتعاوين ظل ساري المفعول لمدة تزيد على سنتين بعد إقرار العفو العام في عام 1973 ولم تسجل خلال تلك الفترة أي جريمة خطيرة، وربما كان هذا سبب إلغاء القانون في عام 1975، وهكذا، تم إغلاق هذا الفصل من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية نهائيا.
موقف الجماعة الإسلامية من حرب التحرير
أيدت الجماعة الإسلامية فكرة باكستان الموحدة، إيمانا منها بأن الانفصال يضعف المسلمين في القارة الهندية، لكن لم تكن هناك أية إدانة لواحد من قادتها أو نشطائها في جرائم الحرب، وقد جرى حل قضية جرائم الحرب دوليا باتفاقية سيملا، ووطنيا بقانون المتعاونين، ومن ثم فحين تثار القضية من جديد وتحاول حكومة بنجلاديش لمحاكمة مجرمي الحرب بعد أزيد من 40 عاماً فإنما يكون ذلك لدوافع سياسية بحتة، بهدف النيل من المعارضة الإسلامية، كما يخشى العديد من المراقبين من كونها مجرد محكمة مهزلة، فقد تم إعلان أسماء 36 مجرم حرب قبل بدء المحاكمة! أغلبهم من الجماعة الإسلامية، وبعض من في القائمة كان عمره بين 4 إلى 8 سنوات أثناء الحرب عام 1971م!
ويمارس النظام الحالي ضغطا هائلا على القضاة، حتى وصفه بعض القضاة بأنه ضغط هيدروليكي، ومن ثم فلا أمل في صدور حكم عادل من محاكمة هزلية ذات دوافع سياسية.
من مقال لـ “محمد سليم منسيري”
بتصرف