استطاع التحالف العلماني الصليبي، في حملاته العسكرية المتوالية تقطيع أوصال الأمة الإسلامية وإسقاط رمز وحدتها السياسية، وإعمال منشار حقده لتقسيم جغرافيتها الشاسعة الواسعة الممتدة. إلى كنتونات وإقطاعيات ودويلات مكروسكوبية، بلغت 57 ذات حدود شبيهة بخربشات الأطفال. تلتها حملات أخرى عبر مراحل، بدأت باستئصال لساننا العربي، وزرع ألسن أعجمية مكانه، ثم الحديث عن خصوصيات مصطنعة لهاته الدول، بقصد عزل بعضها عن بعض تاريخيا وفكريا، ثم بدأنا نسمع عن إسلام عصري وإسلام أمريكي، وطلعت علينا أخيرا أصوات نشاز، من تلك التي تعتبر الحملات الاستعمارية، فاتحة خير على هذه الأمة، وبداية احتكاكها بالعالم المتحضر وتنسم بركات العلمانية والحداثة، (كما قالت ماجدة رفاعة الطهطاوي في كتاب أعدته ونشرته جريدة الأحداث المغربية بعنوان قدر العلمانية في العالم العربي، ص 140) واعتبر أحدهم أن هزيمة إيسلي، نصر وفتح مبين فتح المغرب على مصراعيه أمام الحداثة، قلت بدأت هاته الأصوات النشاز الطارئة على المشهد المغربي، التي لا أصل لها ولا سلف ولا تاريخ، تتمسح بالإسلام بعدما علمت أن الدعوة لعلمانية صريحة، وسط مجتمع متدين محافظ، هي كمن يسعى لحتفه بظلفه، بطريقة شبيهة بما كانت تقوم به جريدة السعادة، جريدة الاستعمار الفرنسي قبل الحماية، حيث كانت تدعو الناس لقبول الاحتلال والحماية، وكانت تستنكر أعمال المقاومة، وتصفها بالإرهاب، وتدعو الناس لطاعة المستعمرين، معتمدة في دعوتها على الدين وآيات القرآن الكريم.
وهكذا بدأت تطل مؤخرا بعض رؤوس الفتنة، داعية لإسلام جديد تطوعه لخدمة مشاريعها المستوردة، إسلام بجواز سفر مغربي، لا يسمح له بتجاوز الحدود، ولا لغير المواطنين باعتناقه، فهو مغربي بجلباب وطربوش وبَلغة، إسلام عصري حداثي واقعي وسطي معتدل ومتسامح، إسلام شعاره حرية عدالة مساواة، تماما كشعار الثورة الفرنسية.
فمن عصريته أنه يدعو لسلوك مدني في عيد الأضحى، ولا يقر بهمجية البدو والسلوك البدوي الذي يجتاح المدن من نقل للمواشي وذبحها بهمجية، وتصاعد الدخان من أسطح الإقامات والفيلات الراقية، فهو دين يدعو للقطع مع هذه السلوكيات، وهذه العقليات التي تحرجنا مع أصدقائنا الغربيين، وتتعارض مع طبيعة الدولة العصرية العلمانية، (أنظر عصيد، جريدة الأحداث عدد 4205)
ومن وسطيته أنه لا يحرم شيئا، فهو إسلام واقعي يعيش هموم الناس ومشاكلهم ومتطلباتهم، فكل ما رغبوا فيه فهو الحلال الطيب، إنه إسلام يقف بالمرصاد لأي قوة أو جهة أو نص يمنع الناس من ملذاتهم ولهوهم ولعبهم.
ومن تسامحه دعوته للتسامح مع كل العقائد والأديان والأفكار (إلا التيارات الإسلامية وحدها فهي مستثناة خصوصا ما كان منها سلفيا)، ونبذ كل الشعارات التي تدعو لكره الآخرين وبغضهم بما في ذلك الآيات والأحاديث التي تتحدث عن غدر اليهود ومكرهم، وغضب الله عليهم وضلال النصارى والتبرؤ مما يعبدون، فهذه النصوص متشددة حاقدة وعنصرية، ولا يقرها الإسلام المغربي المتسامح.
إسلام لا يتدخل في السياسة، ولا يعتبر نفسه مصدرا من مصادر التشريع (عصيد، قدر العلمانية في العالم العربي ص 160 منشورات الأحداث)، إسلام لا يرفض بل لا يتعارض مع القيم الغربية كما هي، ( الجندي، قدر العلمانية في العالم العربي 131 منشورات الأحداث)، ويطور نفسه باستمرار لمواكبتها، إسلام لا يعرف قطعي أو مطلق أو ثابت، إسلام ليس في قاموسه حديث صحيح أو إجماع أو نص، إسلام تتلاعب به العلمانية كيفما شاءت، وتنجز به الشطر الأخير من مشروع تقطيع أوصال الأمة وكيانها إلى جزيئات، وعزلها عن بعضها واصطناع خصوصيات وهمية لها.
إن هذا الإسلام الذي تدعو إليه هذه الفئة الطارئة على مجتمعنا، والتي اتخذت من الوسم بالتكفير والوهابية بل بالعمالة، سيفا مصلتا على كل مخالف لهذا الإسلام العلماني، والتي لم تعد تكتفي بمحاربة الكتب التي كانت تسميها أجنبية ووافدة، بل أصبحت تدعو صراحة وبكل وقاحة لمصادرة الكتب والمخطوطات المغربية الأصيلة التي ألفها علماء مغاربة مالكية، منهم الأشاعرة والصوفية وغيرهم كثير، حيث وضعت جريدة الأحداث (جمع حدث ومنه الأصغر والأكبر وهي بمعناهما معا)، في عددها 4203 الاثنين 22 نونبر 2010، لائحة بأسماء الكتب والمخطوطات المغربية الأصيلة التي تخالف هذا الإسلام العلماني الذي سموه إسلاما مغربيا، داعية لعدم طباعتها أو تداولها.
إن دعوة كهذه لا يمكن أن تصدر إلا عن واحد من ثلاثة:
أولا: مجنون، لأن الدين لا يحد بوطن ولا ينسب لوطن، وإلا فعليهم إن أرادوه مغربيا، أن يتبرؤوا من الإمام مالك لأنه مشرقي وكذا الأشعري والجنيد رحمهم الله جميعا، لأنه من غير المعقول أن نتحدث في الفقه عما قاله مالك ونقول للناس إنه فقه مغربي، أو أن ندل الناس على سلوك الجنيد ونفهمهم أنه سلوك مغربي لا مشرقي، فالدين ليس سيارة نضع لها لوحة أرقام مغربية، ويكفي المجانين العلمانيين أن يفهموا قول مالك وهو يرد على المبتدعة: “من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خان الدين، لأن الله تعالى يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فما لم يكن يومئذ دينًا، لا يكون اليوم دينًا” الاعتصام للشاطبي.
ثانيا: جاهل، لا يعلم الكم الهائل من الكتب والمخطوطات المغربية، التي تدعو لإسلام يتعارض مع هذا الإسلام المغربي المحدث المزور، لا يعلم أن ما ينسبه من عدم تسامح وتعصب وتكفير للوهابية أو الإسلام السعودي أو إسلام الشرق، لا يعلم أن كل الطوائف والمذاهب الإسلامية لا تخلو من هذه الأشياء، فالتكفير عرف عند المالكية، والصوفية كفروا من لا شيخ له ومن اعترف بالسر إلى غير ذلك، ومذهب الأشاعرة في التكفير معروف، وغلوهم فيه لا يحتاج لدليل، ولو أردنا استحضار أمثلة للتكفير عند جميع الطوائف بدون استثناء لطال بنا المقال، لأن “الفكر الديني” كما يسميه العلمانيون، بطبيعته قائم على التميز والمفاصلة ومنابذة الآخر، ولا توجد طائفة أو فرقة لا تعادي اليهود والنصارى، وقلّ أن توجد طائفة لا تكفر غيرها، بل في غير الفكر الديني نجد الإقصاء عند كل إيديولوجية وثقافة وفكر، بل إن دعاة هذا الإسلام المغربي أنفسهم يصادرون الأفكار الأخرى ويقصونها ويتهمون مخالفيهم بالتكفير والوهابية بل وبالعمالة، ولم تسلم منهم حتى جماعة التبليغ ذات المنبت الهندي والأصل الصوفي.
ثالثا : متواطئ عميل، يسعى لضرب تاريخ الأمة وإرثها الثقافي، ومصادرة وتنقية مكتباتها من كل ما يعارض مخططاته وأهدافه، ولم أكن مخطئا في بداية هذا المقال حين ربطت هذه الحملة بالحملات العسكرية الصليبية والاستعمارية، فالناظر لِما كانت تقوم به تلك الجيوش البربرية، بالمكتبات من حرق وإتلاف وتخريب، لن يجد عناء في فهم ما ترمي إليه هذه الدعوة الجديدة، من تخريب لذاكرة الأمة، ومحوها وطمسها بحجة نشر إسلام مغربي جديد.
إن هذا الإسلام المغربي الذي أصبحنا نسمع عنه، ليس هو الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، إسلام لم يعرفه علماء الشرق ولا الغرب، إسلام هجين خديج، على الكل محاربته والتحذير من دعاته وكشف مراميهم وأهدافهم. إن النفس المتشنج والمتعصب الإقصائي والإرهابي الذي طرحت به جريدة الأحداث موضوعها، ليشي بالأسوء القادم، والخطر الداهم، وإن السكوت على مثل هذه الدعوات المريبة الرامية، لفصل المغاربة عن جذورهم، ومحو ذاكرتهم، ومصادرة تاريخهم وإرثهم، والتعالم على علمائهم وسلفهم، ورميهم بالتعصب والتشدد والجهل والضلال. وخاصة ممن يعنيهم الأمر سكوت محير؟
أخيرا أهمس في أذن أصحاب هذه الدعوات، ألم يكن الأنسب والأجدى الدعوة لما تجيدون وتحسنون، من حرية وحداثة وعلمانية، وغيرها من الأفكار التي جاءت على ظهر الدبابات الفرنسية، وترك الإسلام لأهله وأصحاب التخصص فيه، من مجالس علمية وهيئات العلماء وغيرهم. و الأسلم لكم الابتعاد عن الدين، وعدم الاعتقاد بسهولة تطويعه، أو استعماله واستغلاله، فبذور ما تدعونه تشددا وتميزا وتفردا هو جزء من الدين لا ينفك عنه، وسبب فشل المشروع العلماني هو هذا الدين مهما أصابه من الضعف، وطالما أنكم تلعبون على الحبلين وتمارسون التقية، وتسعون للتوفيق والتلفيق، فلن تصلوا إلى شيء، فإما الإسلام أو العلمانية، وهما ضدان لا يجتمعان، أما المغرب فمسلم وأما الإسلام فلا ينضبط بحدود ولا يخضع لقوميات، لذا نقول إن الهدف هو مغربة الإسلام كذريعة لعلمنة المغرب، فاعتبروا يا أولي الألباب.