من الظلمات إلى النور (3)
نعرض في هذه السلسلة قصصا مؤثرة لأناس عاشوا فترة من أعمارهم بعيدين عن ربهم، تائهين عن طريق الهدى، تتقاذفهم أمواج متلاطمة من الشهوات والشبهات، قبل أن يتسلل نور الإيمان إلى قلوبهم، ليقلب بؤسهم نعيما، وشقاءهم سعادة..
إنه نور توحيد رب العالمين، إنه قوت القلوب وغذاء الأرواح وبهجة النفوس
حتى عام 1990، كان الدكتور «لورنس براون»، مثل كثير من الغربيين، ما يزال يعتقد بعدم وجود خالق لهذا الكون؛ مسَلِّما بنظرية النشوء والارتقاء التي اعتبر فيها تشارلز داروين أن البشرية تنحدر من نسل القرَدة، ومؤمنا بالفلسفات الإلحادية التي تعتبر الإنسان مركز الكون وأعظم الكائنات، وأن ما يتقلب فيه من وقائع وأحوال ما هي إلا انفعالات الطبيعة ما بين الرضا والغضب!
هكذا عاش «براون» حياته ملحدا، ينظر إلى المتدينين على أنهم مجرد جماعة من المتخلفين الذين لم ترْقَ عقولهم إلى استيعاب الحقائق التي تدركها النخبة المثقفة والمتعلمة تعليما عاليا، وأن من واجبه أخلاقيا على الأقل باعتباره عالما كبيرا أن ينتشل أولئك الجهلة من ضلالهم، وأن يعمل على إقناعهم بالتخلي عن الإيمان بتلك الخرافات التي ليس عليها أثارة من علم؛ هكذا كان يعتقد، إلى أن جاء اليوم الذي سيكون فاصلا في حياة الدكتور الأمريكي..
«هانا» هو اسم ابنة براون الثانية، والتي كان يوم ولادتها هو نفسه يوم ولادة أبيها من جديد، نعم، ففي ذلك اليوم أسلم الدكتور «لورنس براون» وجهه لله، معلنا كفره بكل الأفكار والمعتقدات الإلحادية التي سيطرت على عقله، وحجب سرابها نور الحق عن قلبه؛ لقد رأى من آيات ربه في يوم واحد ما جعل وجدانه يخضع، وقلبه يخشع.
كانت «هانا» في حالة صحية حرجة منذ الساعات الأولى لولادتها، حيث عانت من احتقان دموي في الشرايين بسبب ضيقها عند نقطة معينة، ما شكل خطرا حقيقيا على سلامة قلبها، وهي حالة تستدعي جراحة مستعجلة مع نسبة ضئيلة لاحتمال شفائها؛ ولأول مرة يشعر الملحد «لورنس براون» بحاجة مُلِحّة لمناجاة قوة عظيمة تنقذ إنسانا غاليا من موت محقق في عُرْف مَبلغِه من العلم، وعلى الفور ترك غرفة العناية المركزة حيث تحَلّق زملاؤه حول صغيرته للتشاور بشأن ما تستلزمه جراحتها، واتجه إلى غرفة مخصصة للصلاة، الآن أدرك الدكتور المثقف أنه ضعيف عاجز لا يملك لفلذة كبده بضع دقائق يضيفها إلى عمرها.
وبعد أن قضى حياته ملحدا ينكر وجود الله، بدأ «لورنس براون» يناجي الله سبحانه وتعالى: “يا إلهي إن كنتَ موجودا…” ويستغيثه أن يكشف السوء عن ابنته؛ وعند هذه النقطة وقف الدكتور عاجزا قاصرا لا حول له ولا قوة، وأيقن أن علمه وثقافته وقوته وكل إمكاناته لم تُغْنِ عنه شيئا، وأن القوة لله جميعا؛ لكن المفارقة أن «براون» مع كل المناجاة والإلحاح في الدعاء كان لا يزال يكابر ويعتبر نفسه ملحدا، وأن الحياة ماديات فقط ولا وجود لخالق مدبر حكيم، لأن نفسه أبَتْ أن تخضع لصوت الحق بما فيها من تعنت صنعته سنوات طويلة راكم خلالها أفكارا ومعتقدات فاسدة، خلاصتُها أن “لا إله والحياة مادة”.
وقبل أن ينهي الدكتور «براون» دعاءه نذر على نفسه لله (إن كان موجودا) إن شفى ابنته وأرشده للدين الحق أن يلزمه ويتبع تعاليمه، ثم توجه عائدا إلى غرفة العناية المركزة حيث ترك قبل دقائق طفلته بين الحياة والموت، ليتفاجأ بتحلق الأطباء والممرضين حول سريرها، قبل أن يلتفت نحوه الجراح قائلا: “ابنتك تحسنت حالتها، وخرجت من مرحلة الخطر”.
ذُهِل الأب مما سمع مثلما ذهل بقية زملائه الذين كانوا قبل لحظات فقط شاهدين على خطورة الوضع الصحي لطفلة لم يجاوز عمرها يوما واحدا، هكذا فجأة ودون عملية جراحية أو أي علاج مما تستلزمه مثل هذه الحالة “الطفلة ستعيش لأن علامات الخطر زالت تماما”!
وفيما كان الطبيب الجراح يشرح بالمنطق المادي الصرف كيف تحسنت حالة الطفلة، كان قلب «لورنس براون» يرفض مطلقا تصديق ذلك، لا لشيء إلا لأنه دعا الله قبل قليل بإخلاص أن ينجي ابنته ويكشف ما بها من ضر، لذلك فهو لا يمكن أن يصدق كلام زميله الذي لا يملك هو الآخر نفعا ولا ضرا إلا أن يشاء الله.
تلك إذن كانت لحظة فاصلة، تحول فيها الدكتور «لورنس براون» من ملحد ينكر وجود الله، ويُكَذب بالبعث والحساب والجنة والنار وكل الغيبيات، إلى مؤمن مخبت يصدق الخبر عن الله ورسوله، ويُقر بضعفه وفقره لملك الملوك سبحانه، الذي يجيب الدعاء ويرفع البلاء.. {أَمَّن يُّجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللهِ ۚ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ}.