بين مدلول السيادة ومعنى الممارسة
إن مشكلة القائلين بديمقراطية الإسلام، على اختلاف اتجاهاتهم؛ وهم بين قائل أن “الديمقراطية” توافق الإسلام في الجملة. وقائل ثاني أنها قسمان: قسم يخالف الشرع، وقسم يوافق الشرع، وقائل ثالث: نحن مُكرَهون، ورابع: خوضنا هو من باب الأخذ بقاعدة أخف الضررين.
كل هؤلاء وآفة جميعهم تكمن عندهم في تداخل مدلول السيادة في الاصطلاح الغربي التي تجعل الشعب أو الأمة هي صاحبة السلطة المطلقة التي لا تحدها سلطة، والإرادة العليا التي لا تعلوها إرادة، في مدلول الممارسة للسلطة في الاصطلاح الإسلامي، والتي بموجب هذه الممارسة تملك الأمة الإسلامية صلاحية تولية حاكمها وبيعته ومحاسبته وعزله.
فأنزلوا هذه الصلاحية للأمة الإسلامية في الممارسة السياسية وما نتج عنها من أساليب متنوعة في اختيار خلفائها من الصدر الأول، منزلة السيادة للشعب عند الغرب. وهم جملة بين قائل بسيادة الأمة هي سيادة مطلقة، وقائل بتجزئة السيادة بين الشرع والشعب.
ومن أوائل الذين سبقوا إلى تبني القول الأول محمد الغزالي رحمه الله في كتابه “الإسلام والاستبداد السياسي” حيث قال: «ومن ثم فالأمة وحدها هي مصدر السلطة والنزول على إرادتها فريضة، والخروج على رأيها تمرد… ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك»(1).
فقوله: “فالأمة وحدها هي مصدر السلطة” أي هي مرجع الأمر والحكم بحيث لا يرجع إلى غيرها، ولا يحتاج إلى مرجع آخر وراءها. وفي هذا من الخلط ما يكشف عن مشكلة هذه الفئة، دون محاولة منها التفريق بين ما هو سيادة وما هو ممارسة.
وذلك على أن السيادة في الإسلام هي للشرع، والشرع هو صاحب السلطة العليا المطلقة داخل المجتمع المسلم، حيث لا إرادة فوق إرادته، ولا سلطان فوق سلطانه. فالإسلام وحده هو مصدر الحكم، وليس الأمة. وهي حسبها إذا انْتَخَبَت حينما تمارس حقها في سياسة الدولة انتخبت من يحسن تطبيق الإسلام. وإذا اعترضت عن حاكمها في إطار حقها في هذه الممارسة اعترضت عنه فيما خالف فيه أحكام الإسلام. فهي ملزمة بأحكام الشريعة في انتخابها وفي اعتراضها على سواء، ومن ثم فهي محكومة وليست حاكمة حتى تكون هي مصدر السلطات.
وهذه السقطة تكشف عن مدى الانبهار الشديد لبعض هؤلاء، بواقع التحولات في السياسة الغربية. الشيء الذي كشف عنه محمد الغزالي رحمه الله بوضوح في مقاله المنشور تحت عنوان: “لماذا لا نقتبس من الديمقراطية الغربية؟”، حيث قال: «إن الديمقراطية الغربية إجمالا وضعت ضوابط محترمة للحياة السياسية الصحيحة، وينبغي أن ننقل الكثير من هذه الأقطار لنسد النقص الناشئ عن جمودنا الفقهي قرونا طويلة…»(2).
لعل القارئ يكشف له هنا سر قول الغزالي: «الأمة وحدها هي مصدر السلطة…». أو مثل قول وهبة الزحيلي الذي نقله أخونا الشيخ القباج في كتابه نظام الحكم في الإسلام: «فإن الأمة مطالبة برقابة أعمال الأفراد والحكومة، وبهذا يتحقق مفهوم الديمقراطية السياسية، أي أن الأمة هي مصدر السلطات»(3).
إنهم اعتبروا ما عرفه المجتمع الإسلامي من تقدم غير مسبوق على مستوى الممارسة السياسية في التعيين والاختيار والعزل والمحاسبة والرقابة، مقارنة منهم مع ما عرفته الدول الغربية من تحولات سياسية وتقريرها مبدأ “السيادة للشعب”. ظنا منهم أن حق الأمة الإسلامية في هذه الممارسة ينزل منزلة السيادة لها في الدول الغربية. الشيء الذي قادهم إلى النظر إلى الشريعة الإسلامية بعين ديمقراطية، حتى نشأ لبعضهم القول أن الشريعة الإسلامية ديمقراطية حقة، ولبعضهم الآخر القول بأن المجتمع الإسلامي في عهد الرعيل الأول هو مجتمع ديمقراطي بل هو عهد نشأة الديمقراطية.
وممن نحى أيضا نفس هذا المنحى السيد الدكتور أحمد الريسوني في كتابه “الأمة هي الأصل” في معرض بيانه لمعنى الديمقراطية في ترجمتها الحرفية والتي هي حكم الشعب نفسه بنفسه حيث قال: «فـ”الشعب يحكم نفسه بنفسه” معناه أن الشعب يختار من يحكمه ويختار النظام الذي يحكمه ويختار من يقرر له ويختار من يجتهد له…»(4).
وهذا كلام يلقي الأضواء على سر القول بنظرية ديمقراطية الإسلام الذي يكمن في ربطهم بين الممارسة والسيادة، وذلك عند إنزالهم صلاحية الأمة الإسلامية في الممارسة السياسية واختيار حاكمها، منزلة السيادة للشعب عند الغرب. لغفلتهم عن جوهر القضية التي لا تكمن في عملية الاختيار وإنما تكمن في المبدأ الذي يقوم عليه النظام. فالأمة في ظل الديمقراطية تختار من يحكم فيها بحكم الشعب، وفي ظل الإسلام تختار من يحكم فيها بحكم الشرع.
السيادة بين القول بالإطلاق والقول بتجزئتها
ولقد انتبه السيد أحمد الريسوني إلى أن أمر إطلاق القول بسيادة الأمة هو أمر لا ينضبط، وذلك لتأكيد الإسلام على أن الأحكام مرجعها إلى الشرع.
مما جعله يستدرك على قوله السابق بقوله: «نعم، الإسلام هنا قد يختلف جوهريا في هذه المسألة وهو أن له مرجعية، وأما الديمقراطية فليست لها مرجعية سوى الديمقراطية نفسها -إلى قوله- أما بالنسبة للإسلام فليس الأمر على هذا الإطلاق وليس بهذه الحرية الكاملة وإنما هناك ضوابط وهناك ثوابت وهناك مرجعية،…»(5).
لكنه بدلا أن يذهب من القول بسيادة الأمة إلى القول بسيادة الشرع، استنادا منه -أولا- على حكم وجوب الالتزام بشرع الله مصداقا لقوله تعالى: إن الحكم إلا لله(6). و-ثانيا- على مدلول السيادة التي في معناها المتفق عليه؛ هي السلطة المطلقة التي لا تحدها سلطة، والإرادة العليا التي لا تعلوها إرادة.
ذهب إلى قول القائلين بتجزئة السيادة بين الشرع والشعب؛ مفرقا بتفريقهم بين حال وجود نص قطعي صريح، وبين حال لا وجود فيه لنص أو فيه نص ظني الدلالة. وذلك في مثل قوله من كتابه “الأمة هي الأصل”: «وهكذا نرى أنه إذا كنا نقسم حياتنا ومشاكلنا وقضايانا وما نحتاجه من تشريعات وأحكام إلى ما هو منصوص، وما فيه اجتهاد أساسا وبداية، فإن ما هو منصوص أيضا فيه مجالات للاجتهاد والشورى. هذه المجالات التي تدخلها الشورى كلها تقبل أن نقول فيها، إن الناس يتدبرون أمرهم ويحكمون أنفسهم بأنفسهم»(7).
ليعود بنا السيد أحمد الريسوني القهقرى إلى إشكالية حمل معنى الممارسة على مدلول السيادة. مخالفا بتجزئته هذه الاتفاق الحاصل على مدلول السيادة أنها السلطة المطلقة والإرادة العليا. إذ بهذا المعنى يمتنع القول بتجزئة السيادة أو تقييدها. لأن الأحكام في الإسلام جميعها مرجعها إلى الشرع، والاجتهاد بهذا القيد لا يمنح صاحبه صفة السيادة، لعدم جواز مخالفة المجتهد مقاصد الشريعة والمبادئ العامة للدين فيما يجدّ له من أقضية، بمعنى أن الخضوع والانقياد في المجتمع الإسلامي يكون للشرع وحده ولا يكون لشعب ولا لحاكم ولا لمجتهد.
إنه لفرق ضخم بين شعب لا ضابط له إلا هوى الشعب، وشعب يمارس حقه ويتدبر أمره عن طريق نوابه وممثليه ومجتهديه، في حدود ألا يحلوا حراما ولا يحرموا حلالا. فهذا شعب لا سيادة له لا جزئية ولا مقيدة لأن الشرع مهيمن على ممارسته وحاكم على تدبيره.
وإذا تقرر أن الديمقراطية مبنية على مبدأ السيادة للشعب، ولا سيادة للشعب في الإسلام. والإسلام مبني على مبدأ السيادة للشرع، ولا سيادة للشرع في الديمقراطية. تقرر مبدئيا أن لا ديمقراطية في الإسلام. وإنما الإسلام هو الإسلام لا ديمقراطية فيه، والديمقراطية هي الديمقراطية لا إسلام فيها. ولكل منهما مبدؤه العام وقاعدته الأساسية.
وإن مجرد وجود تشابه في إجراء عملي لا يتجاوز شكله، وتوافق في فكرة لا يتجاوز سطحية عموم مصطلحها وظاهر اسمها، لا يبرر العمل على تكريس شبهة الإسلام الديمقراطي أو أن فيه ديمقراطية، وذلك بفعل التأثر الشديد بشكل أو بآخر بمن كان لهم السبق في ترويجها، على الرغم من أنها شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة الإسلام وطبيعة الديمقراطية.
يتبع…
ــــــــــــــ
(1) ص:54.
(2) مجلة الصحوة العدد 51.
(3) ص:16.
(4) ص:31.
(5) ص:31.
(6) سورة يوسف الآية:40.
(7) ص:30-31.