شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

وبضم ما انتشر من فوائده *** ونظم ما انتثـر من فرائـده
بنيت فيه علـى الاقتضـاب *** وملت للإيجاز لا الإطناب
منتخبا من الفصول ما نحا *** وما به الفكر الكليل سمحـا
«و» ذلك «بضم» أي جمع «ما انتشر» وتفرق «من فوائده» في مجاري تقريرات المصنف واستدلالاته واحتجاجاته، ولم بعضها إلى بعض، «و» كذلك بـ«نظم» أي جمع ولم «ما انتثر» أي تفرق «من فرائده» جمع فريدة، وهي -لغة- الجوهرة النفيسة التي تفصل بين اللؤلؤ والذهب، سميت بذلك كأنها مفردة في نوعها، والمراد بها الفوائد الجليلة القدر المنيرة سبل النظر والفهم، وأثمار النظر المجتناة بعمق تأمل ودقة في إعمال الأذهان.
«بنيت» منهجي « فيه» أي في هذا النظم «على» الأخذ بمقتضى «الاقتضاب» أي الاختصار، وهو الاكتفاء بلب الموضوع وأهم ما ينبغي ذكره فيه وإسقاط ما سوى ذلك، «وملت» فيه -كذلك- «للإيجاز» وهو جمع المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل مع الإبانة والإفصاح، «لا الإطناب» وهو زيادة اللفظ على المعنى -التطويل-.
«منتخبا» بكسر الخاء، حال من ضمير المتكلم المتقدم، أي مختارا ومنتقيا من الكلام الوارد فيه «من الفصول ما نحا» أي قصد المصنف ذكره «وما به الفكر» -ال فيه نائبة عن الضمير- أي فكري «الكليل» أي الضعيف في النظر والإدراك -وصف فكره بذلك تواضعا- «سمحا» أي جاد.
من اعتراضات وتنبيهات *** ومـن أدلـة وتـوجـيـهــات
وجـاعـلا لـه مـن السمات *** نيل المنى من الموافقــات
وهـا أنـا بـمـا قصدت آت *** مقدمـا حكـم الـمـقـدمــات
وأسال التوفيق والإعـانـة *** في شأنه من ربنا سبحانه
«من اعتراضات» تورد على تقريرات لقضايا وأحكام وأثمار أنظار، «وتنبيهات» على أمور قد تكون الغفلة عن استحضارها أو عن تصورها على الوجه الصحيح حصلت، «ومن أدلة» وحجج سيقت لبيان وتقرير صحة ما استدل عليه بها، «وتوجيهات» لآراء فقهية وأصولية، وأعمال ومناهج اختيرت في شأن التعبد.
«وجاعلا» أي واضعا «له» أي لهذا النظم «من السمات» أي الأسماء اسم «نيل المنى» -بضم الميم- جمع منية، وهي ما يتمنى ويرغب فيه «من الموافقات»، ومقتضى هذا الاسم أن هذا النظم يمَكِّنك تحصيله حفظا وفهما من إدراك ما يتمنى ويرغب في إدراكه من كتاب «الموافقات».
«وها أنا بما قصدت» من نظم هذا الكتاب على الوجه الذي تقدم وصفه «آت» أي جاءٍ، «مقدما» في الذكر كما يقتضي ذلك الوضع والطبع «حكم المقدمات» يعني ما تدل عليه من قضايا وأحكام -هذا ما يظهر لي من كلامه، ولو قال مقدما ذكر المقدمات لكان أبين وأوضح-.
«وأسال» أي أطلب «التوفيق والإعانة» على السداد وبلوغ المرام والغرض «في شأنه» أي شأن هذا النظم «من ربنا» الكريم الرحيم «سبحانه» وتعالى.
إن أصول الفقه قطعيات لأنها للشـرع كليـات
وذا بالاستقـراء يستبيـن ……………………
المقدمة الأولى:
في أن أصول الفقه كلها قطعية الثبوت وفي هذا يقول الناظم رحمه الله: «إن أصول الفقه» في الدين من حيث ثبوت كونها أصولا فقهية «قطعيات» لا ظنية، إذ الذي لم يقطع بكونه أصلا قطعيا لا تبنى عليه الأحكام الشرعية، وإنما كانت أصول الفقه هذه قطعية «ﻷنها للشرع» أي ملة وشريعة الإسلام «كليات»، وما كان كذلك فهو قطعي.
«وذا» أي هذا الذي ذكر من أن أصول الفقه قطعية لأنها راجعة الى كليات الشريعة «بالاستقراء» التام، وهو تتبع جميع جزئيات الشيء المستقرإ، وهي -هنا- مسائل علم الأصول أصلية كانت أو فرعية، «يستبين» يظهر، فإن من تتبع هذه المسائل أدرك على قطع أن هذه الأصول راجعة إلى كليات الشريعة الثلاثة، وهي׃ الضروريات والحاجيات والتحسينات.
……………………………. ومـا كـذا فشـأنـه اليقـيـن
بيـانه استقراؤنـا في الشـرع **** لحكمه كذاك وهو قطعي
أو من دليل العقل ذي للقطع ………………………..
«وما» كان «كذا» أي ثابتا بهذا السبيل -وهو هذا الاستقراء- «فشأنه» في الإدراك العقلي «اليقين» أي الجزم بالحكم والقطع به، فتحصل أن أصول الفقه قطعية الثبوت بناء على هذا الاستقراء المذكور.
وأما كون ما ثبت بهذا الدليل قطعيا فـ«بيانه» من أوجه، أحدها «استقراؤنا» -يعني الاستقراء الكلي- «في الشرع» «لـ» أدلة «حكمه» أي أحكامه، وهذا الاستقراء حكمه «كذاك وهو قطعي» لأنه استقراء تام.
«أو» بيانه «من» جهة «دليل» حكم «العقل» وهو إما الوجوب أو الجواز أو الاستحالة كما سيذكره في المقدمة الثانية؛ و «ذي» الجهة -أيضا- مفيدة «للقطع» وقاضية به.
……………………….. أو جهة المجموع وهو قطعي
ومع ذا لو لم تكن قطعية *** لاتـصـفـــت بـأنـهــا ظــنـيــة
ولو أجيز الظـن في كلية *** لجـاز فـي الكـليـة الأصـلـيــة
«أو» من «جهة المجموع» من هاتين الجهتين معا، وهما جهة الحكم العقلي وجهة الاستقراء، «وهو» أي ما تقتضيه هذه الجهة «قطعي» من باب أولى، لأنه مركب من مقتضى الجهتين الأوليين، هذا هو أحد هذه الأوجه.
«و» يزاد «مع ذا» الوجه المذكور وجه آخر، وهو أنه «لو لم تكن» هذه الأصول «قطعية» الثبوت «لاتصفت بأنها» أدلة «ظنية» ضرورة انحصار حالها في أنها لا تكون إلا قطعية أو ظنية.
«ولو أجيز الظن في كلية» يعني ولو أجيز أن تكون كلية من هذه الكليات ظنية «لجاز» الظن «في الكلية الأصلية» وهي أصل الشريعة، وعلى قطع نعلم أن أصل الشريعة الذي تفرعت عنه هذه الكليات أصل ثابت وهو الأصل الكلي الأول، لأنه عنه تفرعت هذه الكليات الثلاثة׃ الضروريات والحاجيات والتحسينات، ومعنى أنه تفرعت عنه أنه أخذت منه وبنيت على ما تضمنه من أدلة وأحكام، ألا ترى أنه هو المستقرأ لمعرفة هذه الكليات وإدراكها، وإذا تقرر ذلك علم أن هذا الأصل الكلي ثابت لأنه شرع الله الذي لا تبديل له ولا تغيير.
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *