وضحت في كتابات سابقة؛ أن العلماء الذين تزعموا حركات الدعوة والإصلاح في زماننا المعاصر؛ وجهوا المصلحين إلى ضرورة تبني المسلك الشمولي في الإصلاح مع مراعاة الأولويات بين ما هو ديني وما هو اجتماعي وما هو سياسي..
أذكر منهم: العلامة بوشعيب الدكالي والعلامة محمد بن العربي العلوي في المغرب، والعلامة عبد الحميد بن باديس في الجزائر، والعلامة النيفر في تونس، والعلامة محمد رشيد رضا في مصر، والعلامة السعدي والعلامة محمد بن إبراهيم في السعودية.. وغيرهم رحمهم الله..
وما منهم إلا وله مشاركة وجهود في الإصلاح السياسي وإرساء دعائم المدافعة السياسية، على تفاوت بينهم في ذلك؛ مما يبين أن الخوض في السياسة المعاصرة إصلاحا وترشيدا، تقويما وتسديدا؛ مسلك شرعي وهدي مرعي..
وهو ما أكدته فتاوى وتوجيهات الطبقة التي أعقبتهم من العلماء الربانيين الراسخين؛ الذين أسسوا فتاويهم على قاعدة الشرع الراسخة: “إيجاد المصالح وتكثيرها وإعدام المفاسد وتقليلها”، بعيدا عن تقلبات التجارب وضغوط المستبد المحارب..
أذكر منهم: العلامة محمد سالم ولد عدود، والعلامة أحمد شاكر، والعلامة عبد العزيز ابن باز، والعلامة محمد ابن عثيمين..
إن أحداث ما سمي بالربيع العربي؛ أكدت بأن السياسة في العالم العربي والإسلامي في أمس الحاجة إلى إصلاح يدنو بها من كمالات السياسة الشرعية؛ مما يفرض انخراط المصلحين -وعلى رأسهم العلماء-؛ في إقامة دعائم هذا الإصلاح بما يؤدي إلى تقليص حجم الاستبداد وسلوك الظلم والاعتداء على الحقوق.. ويرسخ العدل بمفهومه الشامل المطلق الذي اتفقت الشرائع على أهميته..
وقد كتبت هذه المقالة لأثبت أن الإصلاح السياسي جزء لا يتجزأ من واجب الدعوة والإصلاح المناط بهذه النخبة من الناس..
وفي هذا الصدد أرجع إلى قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
وقد نقلت -في مقالة سابقة- الأقوال الثلاثة في تفسيرها، ويهمني منها الآن القول الثاني؛ وخلاصته أن المجتمع الذي يتفشى فيه الشرك؛ ينجو من الهلاك العام إذا غلب على أهله الإصلاح السياسي الذي يدافع الظلم والاستبداد ومصادرة الحقوق:
وقد ذكر هذا القول: الإمام الطبري (ت 310هـ) بقوله:
“معنى الآية: لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله؛ وذلك قوله: “بظلم” يعني: بشرك؛ (وأهلها مصلحون)، فيما بينهم: لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم إذا تظالموا”. [جامع البيان ت شاكر (15/ 530)]
وذكره أبو المظفر ابن السمعاني (ت 489هـ) في قوله:
“فِي الْآيَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه لَا يُهْلِكهُمْ بِمُجَرَّد الشّرك إِذا تعاطوا الْإِنْصَاف فِيمَا بَينهم، وَلم يظلم بَعضهم بَعْضًا.
وَالثَّانِي: هُوَ أَن الله لَا يظلم أهل قَرْيَة فيهلكهم بِلَا جِنَايَة.
وَالْأول أشهر”. [تفسير السمعاني (2/ 467)]
وقال القرطبي (ت 671هـ):
“قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى) أَيْ أَهْلَ الْقُرَى.
(بِظُلْمٍ) أَيْ بِشِرْكٍ وَكُفْرٍ.
(وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) أَيْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي تَعَاطِي الْحُقُوقِ.
أَيْ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ بِالْكُفْرِ وَحْدَهُ حَتَّى يَنْضَافَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِاللِّوَاطِ.
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ أَقْرَبُ إِلَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ الشِّرْكِ فِي الْآخِرَةِ أَصْعَبَ.
وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ”. [تفسير القرطبي (9/ 114)].
وقال أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371هـ):
“الظلم هو الشرك؛ أي إنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ماداموا مصلحين فى أعمالهم الاجتماعية والعمرانية والمدنية”. [تفسير المراغي (12/ 97)].
أي: السياسية.
وبهذا نقف على حقيقة مهمة؛ وهي أن الإصلاح الذي يفترض أن ينخرط فيه عقلاء الدولة والمجتمع ومواطنوه الصادقون في وطنيتهم، ومنهم العلماء؛ لا يقف عند حد الإصلاح العقدي -وهو الأهم-؛ بل يشمل الإصلاح السياسي؛ بما يعنيه من إقامة للعدل وأداء للحقوق..، وما يقابل ذلك من رفع للظلم واتقاء لدعوة المظلوم؛ كما في حديث معاذ رضي الله عنه قال:
“بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب». [متفق عليه].
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد معاذا رضي الله عنه إلى نوعي الإصلاح (العقدي والسياسي)؛ وقد أجاد شيخنا العلامة الدكتور عادل بن المحجوب رفوش في إبراز هذا المعنى من الحديث، فقال حفظه الله تعالى:
“..فهذا معاذٌ الجبل ابنُ جبل وقد بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى اليمن داعياً والياً قاضياً؛ يؤسس به رسول الله توسع الدولة النبوية، ويرسي دعائم الإصلاح في مناحي الجزيرة، ويمهد بالسفارة الجَبَلِيَّةِ بين أهل الإسلام وبين أهل اليمن ممن ورثوا الكتاب وعندهم من أَثاراتِ الأوَّلين؛ ما اكتتبوه وحفظوه وأوتوا فيه جدلاً؛ لا يستنكفوا أن يضربوه مثلاً؛ أو يضربوا عنه الذكر صفحاً ذَهَلاً…
فأعطى القائد الأعظم تعليمات النور الموحى به؛ لتكون نبراسا لهذا السفير الحفيظ العليم.
ووضح له أن الترقي في أولويات الدعوة والدولة؛ ذو بال لا يجوز تخطيه أو خلطُ درجات سلمه؛ فالعقيدة له أساس والشريعة على العقيدة برهان..
وإذا كان الإصلاح رسالةً؛ فإن جمال هذه الرسالة في فتح أبواب الإصلاح كلها؛ في ديانة الناس وفي منظومة الأخلاق وفي دوَّامة السياسة؛ فإن مدار صلاح المجتمع على صلاح الثلاثة، ومتابعة الإصلاح فيها دواماً وتكاملاً وتوازياً:
ويدل آخر الحديث على صميم هذا المعنى؛ وهو أن الإصلاح إن لم يعم كل الأبواب ويتقى معه أسباب الظلم والفساد والاستبداد؛ فكأنه “باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه”؛ فقال له: “واتق دعوة المظلوم”.
والمظلوم اسم مفعول محلى بأل، وهو يفيد عمومه؛ أي: كل من حل عليه ظلم وناله اضطهادٌ؛ جرّاء أحكامك أو جرَّاءَ إقرارك..
سواء كان فردا أو جماعة، عدوا أو صديقاً، موافقاً أو مخالفاً..
فإن له وَجَاهَةً عند خالق الخلق لا بد من مراعاة ذمته، وأن لا يستهان بدعوته.
والدعوة هنا بمعنيين:
الأول: الدعوة بمعنى الدعاء؛ أي ما يدعى به؛ كقوله تعالى: “قد أجيبت دعوتكما”؛ فالمظلوم وإن بطَّأَ به عمله أو حتى كفرهُ فضلاً عن بدعةٍ أو خلافٍ أو اجتهادٍ؛ فإن الله يفتح لابتهاله أبواب السماء وتزال حجب الاستجابة وتنعدم كل الشروط حتى شرط الإيمان؛ لأنَّ الظلم عند الله عظيم وهو مَجَازُ كُلِّ مُجتاز..
الثاني: الدعوة بمعنى ما يدعى له؛ كقوله تعالى: “له دعوة الحق”؛ فإن المظلوم تعقد لمظلمته شرعاً المؤتمرات والإجارات، وتنشأُ من أجل نصرته الدعواتُ والتوجُّهات؛ حتى ينال حقه؛ لأن الله ناصرُ دعوته (أي: مطلبه) وناصر من ظاهره فيها وأعانه على استرداد ما بخس من حقه وما هضم من جنابه؛ بالدعوة إلى المناصرة وبالدعاء على من ظلمه..
فلا صلاح إلا بإصلاح ولا إصلاح إلا بمحاربة الظلم والطلاح، وهذا عينُ الفلاحِ عينُ الفلاحِ عينُ الفلاح” اهـ كلام شيخنا.
إن الآية الكريمة -من خلال تفسيرها هذا-؛ تشهد لصحة ما ذهب إليه جمهور أهل الاجتهاد في عصرنا؛ وتؤكد مشروعية المشاركة في التدبير السياسي في ظل نظام سياسي يشتمل على مخالفات شرعية..
إذا كانت المشاركة بقصد تخفيف الشر وتوسيع دائرة الخير قدر الإمكان..
وفساد نظام الحكم في بلد؛ لا يعفي المصلحين من أهله؛ من وجوب المشاركة في عملية الإصلاح السياسي التي تقترب بالسياسة من قيم وممارسات العدل وأداء الحقوق واتقاء “دعوة المظلوم”؛ بل يتعين على المصلحين المشاركة بما يؤدي إلى كون الناس أقرب إلى النجاة من الهلاك: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116، 117]
أسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا لهداية الكتاب المبين، ويزين أخلاقنا بهدي المصطفى الأمين، ويثبت أقدامنا في ساحة المدافعة للقوم الظالمين.